إحدى المسلمات التي تشكل بمجموعها مرجعية الخطاب السياسي العربي – الذي لاتختلف فيه السلطات عن المعارضات – هي الإنطلاق من عداء أبدي متأصل بيننا وبين الغرب , فالإسلاميون يرون فيه فقط حصنا للشرك والتحلل والفساد الأخلاقي والعداء للإسلام , والثوريون الإشتراكيون يرون فيه فقط تاريخه الإمبريالي ونهبه واستعباده للشعوب .
وما تمارسه السلطات من سياسات تقرب وصداقة للغرب تقوم به مجبرة وعلى استحياء , وفي أقصى قدر ممكن من التكتم كمن يرتكب معصية وهو يعلم بفداحة ذنبه .
ما أرغب به هنا هو وضع تلك المسلمة الخفية التي تتحكم بتفكيرنا على الطاولة وتحت الضوء .
فقط دعونا ننطلق من حقائق العصر , فالعولمة قد قلبت العالم القديم , وكل تفكير يتشبث بذلك العالم في طريقه للإندثار مثلما انقرضت كائنات حية لم تتمكن من التكيف مع ظروف الحياة المتغيرة على الأرض .
ومن حقائق العولمة إذابة الحدود بين الدول والشعوب , وتبادل الأفكار والأخبار بسرعة البرق , وتداخل المصالح الإقتصادية , وكمثال إعتراضي فلا أحد في الصين الشيوعية يتمنى اليوم إنهيار الإقتصاد الرأسمالي الأمريكي وأيقونته وأعني بها الدولار , فمثل ذلك الإنهيار سيجلب الوبال على الاقتصاد الصيني ذاته ليس فقط بسبب الصادرات الصينية للولايات المتحدة والتي ارتفعت في العام الحالي 2023 بنسبة 10.9% في الفترة مابين كانون ثاني / يناير وحتى نهاية آذار / مارس إلى 245.73 مليار دولار ولكن أيضا بسبب الإستثمارات الصينية في الولايات المتحدة وشراء السندات الأمريكية التي وصلت إلى 1072 مليار دولار في العام 2020 , ونجد تشابكا أيضا في المصالح الاقتصادية بين دول أخرى ذات أنظمة سياسية ليست على وفاق مثل التشابك الاقتصادي بين روسيا وتركيا , وبين روسيا وأوربة قبل الحرب الأوكرانية .
وبينما تقوم العولمة بطحن المفاهيم الإقتصادية القديمة دون عائق فهي تقوم أيضا بطحن المفاهيم الثقافية القديمة ولكن ببطء وبكثير من الممانعة .
ونحن نرى اليوم بوضوح ( اذا أحببنا أن نرى بالطبع ) كيف تقف المؤسسات الديمقراطية في الغرب سدا في وجه موجة اليمين المتطرف الذي يحمل راية العنصرية ويعمل لصالح أعتى المؤسسات الرأسمالية والعسكرية .
وبلغة أخرى فلم يعد الغرب عدوا ولا الشرق صديقا , فالتيارات الإجتماعية – السياسية الديمقراطية في الغرب صديقة , والحكومات المستبدة الفاسدة في الشرق عدوة , ومصير البشرية لم يعد يتقرر في سياق المواجهة بين الشرق والغرب ولا بين الرأسمالية والاشتراكية بل أصبح يتقرر في سياق المواجهة بين تيارات اجتماعية – سياسية عالمية تجد في المؤسسات الديمقراطية الغربية سندها وبين تيارات اجتماعية – سياسية تعمل على الإنقضاض على ما كسبته البشرية خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية من مكتسبات تحررية – ديمقراطية تتعلق بالحريات وحقوق الانسان والديمقراطية .
وبفضل تلك المكتسبات فقد قدمت دولة أوربية غربية مثل ألمانيا من الرعاية والإستقبال لللاجئين السوريين مالم تقدمه دول عربية – إسلامية .
ولأن العقل العربي مازال غائصا في مسلماته المهترئة فهو لم يصدق أن ألمانيا إنما فعلت ذلك بسبب نظامها الديمقراطي وبسبب قوانين اللجوء الأوربية التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية .
نعم للغرب تاريخ استعماري , وهناك اليوم مؤسسات وشركات اقتصادية ومالية وعسكرية تتحكم بمفاصل القرار فيه إلى حد كبير , والحضارة الغربية تفقد وهجها , وثمة انحدار أخلاقي , كل ذلك صحيح . لكنه لايستغرق المشهد العالمي .
فهناك المؤسسات الديمقراطية , ونظام القضاء المستقل , ودور الرأي العام في السياسة في ظل الحريات العامة , وهناك ميراث راسخ من الفكر الديمقراطي وحقوق الإنسان .
لقد جربنا في مرحلة سابقة تطبيق ” اشتراكية عربية ” فجاءت اشتراكية بربرية أعادتنا إلى ضرورة استعادة دولة القانون , دولة الحريات العامة , واحترام كرامة الانسان وحقوقه الخاصة والسياسية , وطالما أننا مازلنا في هذه المرحلة ولم نتمكن من إنجازها حتى الآن , فلابد من رؤية الجانب الآخر من الغرب .
خلاصة القول : أصدقاؤنا في الغرب هم الشعوب ومؤسساتها الديمقراطية التحررية .
وأعداؤنا في كل مكان هم سدنة الإستبداد والتعصب والعنصرية .