في شباط (فبراير) 2015، وسط إشاعات عن احتمال دعم الرئيس سعد الحريري لسليمان فرنجية لمنصب الرئاسة في لبنان، زرت زعيم “تيار المستقبل” في دارته في الرياض ضمن الوفد اللبناني الذي كان مدعواً الى حضور مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة آنذاك. لم تكن الجلسة خاصة طالما أن الحضور ينتمون إلى مشارب سياسية مختلفة، وبالتالي فإن مداولاتها كانت شبه عامة.
شرح الحريري في هذه الجلسة الدوافع والحيثيات التي تقف وراء دعمه قطباً من أقطاب “تحالف 8 آذار”. وكان يرى أن دعم مرشح من المعسكر المضاد بإمكانه جرّه والمعسكر الذي يمثل إلى الخيارات السياسية التي يدافع عنها الحريري وحلفاؤه. وحين سألتُ عما إذا كانت هذه الآلية تنطبق على الجنرال ميشال عون ردّ أحد المقربين من الحريري نافياً بحزم، فيما بدا على محيا الحريري ما يُفهم باستحالة ذلك.
لاحقاً في تشرين الأول (أكتوبر) 2016 رشح الحريري ميشال عون لرئاسة لبنان بعد 10 أشهر من قيام سمير جعجع في كانون الثاني (يناير) من العام نفسه بفعل ذلك. وما كان مرفوضاً لدى الحريري ومستحيلاً قبل ذلك صار مقبولاً ومطلوباً بعد أكثر من عام. تأمّلَ سليمان فرنجية بأسف انقلاباً في التوجهات أطاح بحظوظه بتولي المنصب، لكنه تفهّم ولم يعاتب يوماً الحريري. وحين كان يُسأل كان يجيب بوضوح: “حزب الله هو الذي أسقط حظوظي”.
في هذه الأيام لم يعد الأمر رمادياً. “حزب الله” بلسان أمينه العام السيّد حسن نصر الله يتبنى ترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية. هو مرشح “الشيعية السياسية” بامتياز طالما أن زعيم حركة “أمل” نبيه بري كان أعلن قبل ذلك أنه مرشح “الثنائي”، معللاً أنه ترشيح جديّ على خلاف ترشيح ميشال معوض من قبل المعسكر الآخر، ملحقاً هذه المقارنة بأوصاف أثارت سجالاً عنيفاً بين معوض ومحيط رئيس المجلس النيابي. وفوق ذلك يبدو تبني فرنجية شيعياً أقوى وأوسع من ترشيح ميشال عون قبل 7 أعوام الذي لم يحظَ أبداً بدعم بري.
والراجح أن عجز الداخل عن صناعة صفقة تأتي برئيس تسوية، دفع “حزب الله” وحركة “أمل” الى تظهير خيارهما. ووفق ذلك تسقط احتمالات تبني مرشحين آخرين للثنائي، وخصوصاً جبران باسيل، ويبعث الأمر برسالة جديدة تزيل الغشاوة عن موقف “الثنائي الشيعي”، وموقف “حزب الله” بالذات، من ترشّح قائد الجيش جوزيف عون. ولئن ردد الحزب لازمةً في الأشهر الأخيرة مفادها أن لا فيتو ضد قائد الجيش، فإن الموقف بات واضحاً ومنطقياً يبدد نفاقاً جرى ترويجه قبل ذلك.
عام 2016 كان فرنجية يعرف أن دعم الحريري ضروري ميثاقياً لكنه ليس كافياً، وأن مصير الرئاسة في يد الحزب وسيّده. عام 2023 يحظى فرنجية بدعم الحزب الكامل مضافاً إليه دعم حركة “أمل”، لكنه يعرف أيضاً أن مصير الرئاسة لم يعد حصرياً بيد الحزب وأن أموراً قد تبدّلت وأحوالاً تغيرت وموازين قوى استجدّت تمنع الحزب وبيئته وسلاحه من فرض الرئيس في بعبدا وإن يصعب انتخاب رئيس من دون رضاه.
ولئن صحّ أن رئيس لبنان لن ينتخب، كما هو حال أي رئيس في لبنان، إلا من الخارج، فإن محليّة تبني ترشّح فرنجية من قبل “الثنائي الشيعي” على أهميتها لا تحسم أياً من جولات الصراع ولا يمكن لها أن تقدم لفرنجية الضمانات التي قدمها “حزب الله” من قبل لميشال عون لجهة شلّ البلد والبرلمان وقطع طريق بعبدا على أي مرشح بديل. ومن غير المستبعد أن يكون تبني “حزب الله” ترشح فرنجية هو من قبيل تقديم براءة ذمة للزعيم الماروني الشمالي تُصحح ما اقتُرف بحقه لمصلحة عون عام 2016، من دون أن يستطيع الحزب أن يوفّر لهذا الترشيح مفاعيل تجعل من ترئيسه حتمياً.
ورغم تعقّد الوضعين الداخلي والخارجي وصعوبة تمرير فرنجية رئيساً وفق ذلك، فإن فرنجية نفسه لم يُقدِم على تغيير خطابه بما بإمكانه طمأنة التيارات السياسية الأخرى، خصوصاً أنه مرشح لرئاسة كل لبنان واللبنانيين. فالرجل يعوّل فقط على كونه حليفاً لـ”المقاومة” وللنظام السوري في دمشق وصديقاً شخصياً لرئيسه، من دون أن يأخذ في الاعتبار صدى ذلك لدى خصوم دمشق وطهران والحزب في لبنان. في المقابل فإن الغموض الذي خرج به اجتماع باريس الخماسي بشأن لبنان في 6 شباط الماضي أظهر انسداداً خارجياً من النوع الذي سيصعب عليه رعاية مرشح بمواصفات فرنجية السياسية، ناهيك بأن عدائية موقف واشنطن المتجدد حيال الرئيس السوري ستصعّب على فرنجية التعويل على صداقته الشخصية معه.
وإذا ما يَعِدُ فرنجية بانفتاح على البيئة العربية وكأنها خيار استثنائي لافت، فإن خطابه تجاه الخليج، لا سيما تجاه السعودية، بقي محدوداً محسوباً في إيجابيته على نحو تجنب فيه إطلاق رسائل ودّ صوب الرياض لن تتفهمها طهران ولن يحبّذها “حزب الله”. والأمر يعني أن فرنجية ارتأى تأكيد أنه مرشح “حزب الله” ومن ورائه إيران ودمشق وليس مرشحاً موضوعياً يشتهي دعم كل الأطراف المحلية وينشد رعاية القوى الدولية الراعية.
يأسُ “حزب الله” من احتمالات التوصل إلى رئيس تسوية ليس بالضرورة سببه رفض الآخرين لذلك، بل بسبب عدم قبول الحزب برئيس تسوية يمثل نقطة وسط لبنانية. فالحزب ما زال يرى في سطوته الداخلية ما يفترض أن يتيح له السطو على المقعد في بعبدا. وما ترويج الحزب لمقولة “لا نريد رئيساً يطعن المقاومة” إلا تعبير عن عدم قدرة الحزب، على الرغم مما يزعمه من فائض قوة وحضور شعبي خصوصاً لدى الطائفة الشيعية، على الوثوق بأي رئيس لا ينتمي بنيوياً الى تياره السياسي، وهو بهذا المعنى لا يرى في فرنجية إلا مرشحه الوحيد.
غير أن حالة الاستعصاء، التي قد لا تلتف عليها مناورات نصر الله في الغمز من سوابق دستورية بشأن النصاب القانوني لجلسات الانتخاب، توحي بأن ترشيح “حزب الله” فرنجية ليس علامة من علامات فرج قريب، بل واجهة مقلقة تشي بأن الفراغ الرئاسي طويل الأمد وبأن المطلوب دفع دين قديم لفرنجية قبل أن تولد تسوية تثبته رئيساً أو تأتي ببديل تنتجه صفقة ما في زمن ما. وإذا ما دعم الحريري فرنجية في عام 2015 لتتغير الأحوال لاحقاً، فإن “حزب الله” يدعم فرنجية ويعلنه مرشحاً وهو يعرف أن الأحوال آيلة إلى تحوّل. فرنجية أيضاً يرصد هذا التحوّل الذي ما زال يراه مواتياً لحظوظه.
المصدر: النهار العربي