في سبتمبر (أيلول) 2022، نقل جثمان الملكة إليزابيث في أنحاء اسكتلندا، من قلعة بالمورال، حيث توفيت، إلى القصر الملكي في هوليرود هاوس في إدنبرة. وكان يحمل نعشها المغطى بالعلم الملكي الاسكتلندي “رويال ستاندرد”، أفراد من الفوج الملكي الاسكتلندي مرتدين تنانير الترتان الاسكتلندية. بدت وفاة الملكة شأناً اسكتلندياً داخلياً خلال الأيام الستة الأولى التي تلت موتها، إلى أن حمل نعشها جواً نحو الجنوب، إلى لندن، حيث تمكنت بقية المملكة المتحدة من تقديم الاحترام لها.
لقد أعادت هذه الرحلة الأخيرة إلى ذاكرتنا صور عبور ملكي آخر، أثارته وفاة إليزابيث سابقة، ويمكن اعتباره بشكل منطقي الحدث الذي أدى إلى نشوء المملكة المتحدة. في أبريل (نيسان) 1603، بدأ الملك جيمس السادس ملك اسكتلندا، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 36 سنة فحسب، رحلةً أبطأ بكثير من إدنبرة إلى لندن، ليتسلم الحكم بعد الملكة الراحلة إليزابيث الأولى، التي لم تنجب أي أولاد، باعتباره جيمس الأول ملك إنجلترا وويلز. وبعد مرور عام، في أول خطاب له أمام البرلمان الإنجليزي، شبه اتحاد مملكتيه بزواج لا طلاق فيه: “ما جمعه الله لا يمكن أن يفرقه إنسان. أنا الزوج، واتخذت الجزيرة بأكملها زوجة شرعية لي”. فاهماً هذا التلميح، ألف الكاتب المسرحي في بلاط جيمس، ويليام شكسبير، أكثر مسرحياته رعباً، “الملك لير “King Lear، وحذر فيها من كل الأشياء المروعة التي يمكن أن تحدث إذا قسمت المملكة المتحدة بحماقة.
في الواقع، لا يعتبر القلق على مستقبل “المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا” أمراً جديداً، بل يعود تاريخه إلى بداية القصة، ولكن بالنسبة إلى كثير من المواطنين البريطانيين، أعاد موت الملكة إليزابيث الثانية إحياء هذه المخاوف القديمة. وكما كان شكسبير سيصف الوضع، فإن الاستقرار الذي جسدته لفترة طويلة دفن مع عظامها. فرئيسة الوزراء، ليز تراس، التي أقسمت اليمين أمام الملكة قبل وفاتها بيومين، كادت تغرق المملكة المتحدة على الفور في أزمة مالية، ثم استقالت بعد أسابيع قليلة. منذ ذلك الحين، واجهت البلاد ارتفاعاً في أسعار الطاقة، وإضرابات واسعة النطاق، وما من المرجح أن يكون أسوأ انكماش اقتصادي منذ عقود. وبعد أن غادرت الحكومة البريطانية أوروبا، وجدت نفسها الآن أقل تأثيراً في العالم لا بل أيضاً على خلاف متزايد مع اسكتلندا وإيرلندا الشمالية، حيث صوتت أغلبية كبيرة لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. وهكذا، فإن النظام الملكي، الذي كان في يوم من الأيام رمزاً مهيباً للنفوذ البريطاني والهوية البريطانية، أصبح الآن أرضاً خصبة لروايات شنيعة في الصحف عن الحروب التافهة بين الأشقاء وعن الأمراء المتورطين في الفضائح والخصومة.
ولا شك في أن المملكة المتحدة عانت أزمات وجودية سابقاً. فقد أسست المملكة رسمياً في عام 1707، بعد أن حلت اسكتلندا برلمانها وانضمت إلى إنجلترا وويلز. نمت وتقلصت على مر القرون، فضمت إيرلندا بأكملها في عام 1801 ثم فقدت معظمها في عام 1922. وعلى رغم ذلك، فإن هذه الدولة المتعددة الجنسيات الفريدة لا تزال مستمرة. في عام 1977، نشر أول كتاب حديث عن موضوع التفكك، وهو “تفكك بريطانيا” للمفكر الاشتراكي الاسكتلندي اللامع توم نايرن، وقد أكد فيه بثقة مطلقة، “ليس هناك شك في أن الدولة البريطانية القديمة آخذة في الانهيار”، لكنها بعد ما يقرب من نصف قرن، لا تزال صامدة.
وعلى رغم أن تكهنات نايرن الرهيبة كانت سابقة لأوانها ربما، إلا أنها قد تتسم ببعد النظر. لقد وصف نهاية المملكة المتحدة بأنها “غرق بطيء وليست كارثة من نوع تيتانيك التي غالباً ما يتم التنبؤ بها”، وهي استعارة معناها المجازي أن السفينة “بريتانيا” [اليخت الملكي] تبدو ظاهرياً في حالة جيدة الآن ولكن في جزئها المخبأ تحت سطح الماء، هي متضررة بطريقة ستؤدي إلى غرقها بشكل كامل. حاضراً، يسيطر الحزب الوطني الاسكتلندي (SNP) على السياسة الاسكتلندية، ويعتبر أن انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة مهمة حاسمة. ولأول مرة، فقدت إيرلندا الشمالية الأغلبية البروتستانتية التي شكلت على مدى أكثر من قرن العمود الفقري لاتحادها مع بريطانيا؛ ووفق ما تشير إليه الديموغرافيا وحدها، سوف يميل سكانها، خلال العقود القادمة، أكثر من أي وقت مضى نحو الاتحاد مع جمهورية إيرلندا. وحتى ويلز، التي ضمتها إنجلترا منذ عام 1284، أصبحت مستقلة عنها بشكل متزايد. في ديسمبر (كانون الأول)، وجد التقرير الموقت الصادر عن “اللجنة المستقلة المعنية بمستقبل ويلز الدستوري”Independent Commission on the Constitutional Future of Wales، التي أنشأتها الحكومة المفوضة في كارديف، أن الترتيبات السياسية الحالية مع لندن ليست مستدامة. وأشارت اللجنة إلى خيارات أكثر راديكالية، بما في ذلك إمكانية أن تصبح ويلز دولة مستقلة تماماً.
والأمر الأكثر إثارة للاهتمام، وفق ما كشف عنه التأييد الشعبي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هو أن الناخبين الإنجليز أنفسهم يؤكدون بشكل متزايد القومية الإنجليزية التي كانت مدفونة سابقاً تحت الهويات البريطانية والإمبريالية. إن هذه التحديات المتزايدة لا تترك المملكة المتحدة غير واثقة من مكانتها في النظام الدولي فحسب، بل أيضاً غير متأكدة ما إذا كان يمكن الاستمرار في اعتبارها دولةً واحدة. وهذا النظام السياسي الذي شكل العالم ذات يوم قد لا يكون قادراً على الحفاظ على شكله الخاص.
أقدام غير ثابتة
قد تظل المملكة المتحدة واقفة على قدميها، لكن أسسها أقل عمقاً وثباتاً مما كانت عليه طوال قرون عدة. وأول تلك الأسس كان الإمبراطورية. فمن أجل إنشاء واحدة، احتاجت إنجلترا إلى السلام في جزيرتها الأم والسيطرة على جارتها القريبة المثيرة للمتاعب والمشتتة، إيرلندا. كذلك، احتاجت إلى معرفة أنها إذا خاضت حرباً مع إسبانيا أو فرنسا، فلن تتعرض للهجوم من الشمال من قبل الاسكتلنديين الذين يحملون سيوف “كلايمور” الحادة، وأن منافسيها الأوروبيين لا يمكنهم استخدام إيرلندا كقاعدة يغزون منها الوطن. على النقيض من ذلك، خاصة بالنسبة إلى النخب الاسكتلندية، كان يمكن لإنجلترا أن تقدم حصة مربحة من قوتها التجارية المتنامية بسرعة. وكانت الصفقة منطقية لكلا الجانبين: يمكن أن تهيمن إنجلترا على جزيرة بريطانيا العظمى، ولكن من خلال ضم اسكتلندا إليها يمكن أن تساعدها هذه الأخيرة في السيطرة على العالم.
ثانياً، كانت هناك البروتستانتية. في القرن السادس عشر، اتخذت حركة الإصلاح أشكالاً متنوعة في مختلف الدول البريطانية. بمرور الوقت، أصبحت اسكتلندا موالية للكنيسة المشيخية Presbyterian عموماً، وويلز موالية للكنيسة الميثودية Methodist بقوة، وإنجلترا موالية للكنيسة الأسقفية Episcopalian الرسمية التي نشأت بعد انفصال هنري الثامن عن روما. وكانت التوترات بين هذه الأديان مريرة، ولكن في النهاية ما كان أهم هو عدم الانتماء إلى الكاثوليكية. لذلك كان وجود إيرلندا، التي تمسكت الأغلبية فيها بهوية كاثوليكية قوية، يخلق توتراً على الدوام في المملكة المتحدة. في المقابل، عززت البروتستانتية شعور التماثل والقاسم المشترك بين الأمم الأخرى.
أما الأساس الثالث فقدمته الثورة الصناعية. حتى الثمانينيات من القرن الماضي، كان أي شخص يسافر في جميع أنحاء المملكة المتحدة سيصاب بالدهشة من التاريخ العميق المشترك من ناحية الجهد البدني في حقول الفحم الويلزية، ومصانع الفخار في ميدلاندز الإنجليزية، ومصانع القطن في مانشستر، ومصانع الحديد في غلاسكو، وأحواض بناء السفن في بلفاست. لقد صقل هذا العالم أواصر الوحدة الخاصة به، على غرار حزب العمال والنقابات العمالية التي ظهرت، في القرن العشرين، لتمثل طبقة عاملة وطنية تتخطى الانقسامات الإقليمية. ربما كان حزب العمال، في الأقل لبعض الوقت، إصلاحياً بشكل جذري، لكن من حيث الهوية الوطنية، كان أيضاً محافظاً بشدة. لقد منح الناس العاديين إحساساً قوياً بالهدف السياسي المشترك. وقدمت دولة الرفاه التي أنشأها بعد الحرب العالمية الثانية، بدعم من مؤسسات مشتركة مثل الخدمة الصحية الوطنية، المزايا نفسها للناس العاديين بغض النظر عن أي جزء من المملكة المتحدة كانوا يسكنون فيه.
أخيراً، كان هناك المكانة. في الواقع، اعتبرت الهوية البريطانية فخراً لحامليها. ربما لم يكن لدى الشعوب التابعة للإمبراطورية الشعور نفسه، لكن بالنسبة إلى سكان البلد الأم، بدا أن كلمة “العظمى” في “بريطانيا العظمى”، لم تكن مجرد مؤهل جغرافي، بل تعبير واضح عن التفوق الأخلاقي والسياسي. وبعد الخسارة المؤسفة إلى حد ما للمستعمرات الأميركية، حققت المملكة المتحدة سلسلة مذهلة من النجاحات: سحق نابليون؛ والقضاء على الثورات (بعنف أظهرت المملكة براعة في نسيانه) في أفريقيا، ومنطقة البحر الكاريبي، وإيرلندا، والهند، وأماكن أخرى؛ وهزيمة روسيا في حرب القرم؛ وإذلال الصين؛ والفوز في حربين عالميتين.
وحتى أثناء تراجعها بعد الحرب، عندما كانت الإمبراطورية تتلاشى وكانت المملكة المتحدة تعتاد على دورها كشريك صغير للقوة العالمية الجديدة الناطقة بالإنجليزية عبر المحيط الأطلسي، أظهرت البلاد براعة استثنائية في استبدال بالقوة الصلبة القوة الناعمة. ألقت فرقة البيتلز وفرقة رولينغ ستونز والممثلة جودي دينش ومجموعة أفلام مونتي بايثون بتأثيرها الساحر المتألق في الهوية البريطانية، على رغم أن المؤسسات البريطانية المتصلبة استغرقت بعض الوقت لتقدير هذه الأعمال والأسماء. وتم استبدال بالإمبراطورية المادية مملكة ثقافية. في الفنون والترفيه، في العلوم والفكر، احتفظت الهوية البريطانية بمكانة مميزة بالنسبة إلى المواطنين البريطانيين أنفسهم وإلى الأجانب على حد سواء. وتحولت بريتانيا الحاكمة [عنوان أغنية وطنية بريطانية قديمة بعنوان “رول بريتانيا”]، إلى بريتانيا اللطيفة والهادئة [“كول بريتانيا”].
يكمن نجاح هذا اللقب في القدرة على شمول نوعين من اللطافة. اقترنت فكرة ثقافة البوب الأنيقة والديناميكية مع الصورة الذاتية للبريطانيين الذين يتسمون باللامبالاة. وبعد أحداث عالمية على غرار أزمة السويس عام 1956، وانهيار الجنيه الاسترليني في عام 1992، انخض الشعب البريطاني مثل مارتيني جيمس بوند، ولكن ليس بما يكفي لجعل نظام الحكم في بلاده، المتجذر في ألغاز الدستور غير المكتوب، متقلباً ومضطرباً حقاً.
هذه أسس عميقة. وكثير من البلدان التي توحي الآن بأنها مستقرة تماماً تقف على أقدام أقل ثباتاً. ويبدو أن إضعاف ركيزة واحدة أو حتى اثنتين من ركائز المملكة المتحدة لا يشكل تهديداً وجودياً للبلاد، ولكن ماذا لو ضعفت كل الأعمدة الأربعة؟ في الواقع، في أي تحليل موضوعي، من المستحيل تصديق أن أياً من تلك الأسس التي تشكل الهوية البريطانية لا تزال ثابتة في مكانها اليوم.
غروب الشمس
أشارت وفاة الملكة إليزابيث الثانية، على نحو متأخر، إلى زوال الإمبراطورية. عندما اعتلت العرش عام 1952، كان رعاياها يشكلون أكثر من ربع سكان العالم. وحينما توفيت، كان عدد الأقاليم ما وراء البحار التابعة للمملكة المتحدة بالكاد يتخطى العشرة، معظمها جزر للملاذات الضريبية. حتى الكومنولث، التي اعتبرت لفترة طويلة طريقة ملائمة للحفاظ على شكل أكثر رمزية للإمبراطورية الثقافية، فقدت كثيراً من معناها. في الواقع، يفكر أعضاء بارزون مثل أستراليا ونيوزيلندا في السير على خطى بربادوس، التي أصبحت جمهورية في عام 2021، في التخلي عن العاهل البريطاني كرأس للدولة. الآن أصبح الاحتفال بالإمبراطورية، في أحسن الأحوال، عرضاً للحنين إلى الماضي، وفي أسوأ الأحوال، وربما بشكل أكثر واقعية، يمكن القول إنه صار يمثل كابوساً من الأعمال غير المنجزة: تكاليف العبودية والعنصرية والوحشية العنيفة. (العمل الأخير لكارولين إلكينز في كتابها “إرث العنف: تاريخ الإمبراطورية البريطانية”، يجعل المرء يتعجب من قدرة المملكة المتحدة على الحفاظ لفترة طويلة على الصورة التي ترسمها لنفسها كمستعمر ودود ومتحضر). والجدير بالذكر أن أحد عوامل الجذب التي تعتمدها القومية في اسكتلندا أو ويلز هو المسافة التي تخلقها بين هاتين الدولتين وتهمة الإمبريالية: وبهذه الطريقة، يمكنهما نسب العار إلى المملكة المتحدة، ونفض غباره عنهما بعد الانفصال عنها.
أما بالنسبة إلى الهوية البروتستانتية، فالإحصاء البريطاني لعام 2021 يشكل صدمة عنيفة. لأول مرة على الإطلاق، وصلت نسبة الذين يصفون أنفسهم بأنهم مسيحيون من بين سكان البلاد البالغ عددهم 67 مليوناً، إلى أقل من النصف، أي 46 في المئة، وهو ما يمثل انخفاضاً مذهلاً عن عام 2001، عندما أعطى 72 في المئة أنفسهم هذه الصفة. وناهيك بالانقسام التاريخي بين البروتستانت والكاثوليك؛ لم تعد الهوية المسيحية علامةً تدل على الانتماء إلى الهوية البريطانية.
حطمت رئيسة وزراء المملكة المتحدة طيلة حقبة الثمانينيات، مارغريت تاتشر، القاعدة الصناعية لبريطانيا إلى جانب نقاباتها التجارية. خلال العقد الذي أمضته في السلطة، نما الإنتاج الصناعي بنسبة 21 في المئة في فرنسا، و50 في المئة في اليابان، و17 في المئة في الولايات المتحدة. في المقابل، انخفض في المملكة المتحدة بنسبة تسعة في المئة. وأدى هذا التراجع إلى انهيار حاسم لم تتعافَ منه سمعة المملكة المتحدة كقوة صناعية عملاقة. في الحقيقة، يمثل التصنيع الآن 10 في المئة من الناتج الاقتصادي للبلاد وثمانية في المئة فقط من الوظائف.
بالنسبة إلى جزء واحد من أجندة تاتشر، المتمثل في كسر العمل المنظم، شكل ذلك انتصاراً، لكن في ما يتعلق بجزء آخر، وهو إعادة تأكيد الهوية البريطانية، كانت المشكلة طويلة الأمد. فطيلة الفترة التي تمكنت تاتشر فيها من استخدام الحرب الباردة كحجة، نجح إظهارها لبريطانيا كدولة محاربة تواجه أعداء من برلين إلى جزر فوكلاند، في التعويض عما تكبدته من خسائر حقيقية في القوة الصناعية. يمكن لروح النضال الأسطورية البريطانية أن تخفي الانحدار الذي تختبره البلاد يومياً، ولكن لفترة محددة فحسب. كانت تاتشر تعزز الهوية الوطنية البريطانية وفي الوقت نفسه تقوض أسسها الاجتماعية. وبمرور الوقت، كان من المحتم أن يؤدي هذا التناقض إلى عواقب على قدرة المملكة المتحدة على الاستمرار. وعندما استهدفت تاتشر بشكل مركز القاعدة السياسية للطبقة العاملة، كانت الأضرار الجانبية عبارة عن إحساس قوي بالانتماء المشترك الذي تضاءل الآن بشكل كبير، فالثقافة المشتركة التي جمعت أشخاصاً كثيرين يؤدون العمل نفسه، وينتمون إلى النقابات نفسها، ويصوتون للحزب نفسه (حزب العمال) في إنجلترا واسكتلندا وويلز قد ولت تقريبا.
ومنذ مطلع هذا القرن، كان على مكانة الهوية البريطانية أن تتنافس مع ظهور مراكز قوة جديدة في اسكتلندا، وويلز، وحتى في إيرلندا الشمالية، ولو بطرق أكثر تعقيداً. راهنت حكومة حزب العمال برئاسة توني بلير، المنتخبة في عام 1997، على أن إنشاء إدارات مفوضة في إدنبرة وكارديف وبلفاست سيكون كافياً لتهدئة جميع القوميين الاسكتلنديين والويلزيين والإيرلنديين الأكثر حماسة. وعلى رغم ذلك، على الأقل في اسكتلندا وويلز، فإن وجود تلك المجالس المنتخبة، والوزراء والقادة الذين يتصرفون مثل الحكومات، قد خلق شعوراً بأن المساحات السياسية المهمة، بأجنداتها وخطاباتها الخاصة، موجودة خارج نطاق النخب المتمركزة في لندن.
وفي غضون ذلك، فقد التقليد العسكري البريطاني الذي يتسم بالحيوية بريقه أخيراً. أثناء غزو العراق عام 2003، عندما وقف بلير جنباً إلى جنب مع الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، تخيل أنه يمكنه استخدام الانتصار العسكري، كما فعلت تاتشر، من أجل ترسيخ الشعور بالوطنية البريطانية المشتركة، ولكن حتى في ظل الكارثة الأكبر التي شكلتها حروب بوش، كانت تجربة بريطانيا حكاية صارخة عن الغطرسة والعداء. في عام 2016، عندما نشر تحقيقه الرسمي في حرب العراق، أصدر الموظف الحكومي المحترف جون تشيلكوت [الذي فوض بتشكيل لجنة للتحقيق في غزو العراق] تقييماً صريحاً للقوة البريطانية: “منذ عام 2006، كان الجيش البريطاني ينفذ حملتين متواصلتين في العراق وأفغانستان. ولم يكن يملك موارد كافية للقيام بذلك”. ووصف تشيلكوت أداء البلاد بـ”المهين” في مدينة البصرة، حيث اضطرت القوات البريطانية إلى عقد صفقات مع الميليشيات المحلية نفسها التي كانت تهاجمها. بعد هذه الإخفاقات المؤلمة، لم يعد من الممكن رؤية الجبروت العسكري كجزء من جاذبية الهوية البريطانية. ربما لا تزال المملكة المتحدة تتمتع بقدرات عسكرية واستخباراتية مهمة، وكان للدعم المعنوي والعملي الذي قدمه رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون لأوكرانيا تأثير حقيقي للغاية، لكن اللافت للنظر أن وعد تراس المميز بزيادة الميزانية العسكرية إلى ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي قد تبخر مع رئاستها المشؤومة لمجلس الوزراء. وحتى بين الصقور المحافظين، لا تظهر في لندن أي رغبة تقريباً في بناء أوهام حول قوة عسكرية عالمية متجددة، وليس هناك أي شعور بأن المجد العسكري في الساحات الأجنبية يمكن أن يغطي على الصدوع التي تعانيها الجبهة الداخلية.
إنجلترا أصغر حجماً
كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في جزء منه محاولة للتعويض عن تضاؤل القوة الصلبة البريطانية. وكما صاغها الوزير المحافظ السابق في مجلس الوزراء جاكوب ريس موغ في مؤتمر حزبه في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، فإن الانفصال عن بروكسل سيكون استمراراً للانتصارات الإنجليزية التاريخية في القارة: “هذا شبيه بمعركة واترلو! ومعركة كريسي! ومعركة أجينكورت! وقد فزنا بكل تلك المعارك!” بيد أننا في الواقع لم نحقق الفوز فيها جميعاً. إذا كان الهدف من بريكست هو تحقيق انتصار نفسي عظيم على الاتحاد الأوروبي، فقد قضى عوضاً عن ذلك على أي مفهوم عن الحصانة البريطانية في وجه سياسات الوهم الجماعي. وسط أدلة متزايدة على أن مغادرة أوروبا جعلت المشكلات الاقتصادية الطويلة الأجل في المملكة المتحدة أكثر عمقاً وحدة، فإن المسرحية السياسية الصامتة التي أداها خمسة رؤساء وزراء مختلفين في السنوات الست منذ استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد دمرت كل مفاهيم الرزانة والكفاءة والتماسك البريطانية.
لفترة من الوقت، رفه الإنجليز عن أنفسهم (خلافاً للاسكتلنديين أو الويلزيين بالطبع) بمنظر جونسون المعروف بتهريجه الساخر، لكن النكتة لم تعد مضحكة بعد تفشي كورونا. في ظل ارتباك جونسون ودائرته ومخالفتهم قواعد الإغلاق التي فرضوها على الشعب، بدت الإدارات الإقليمية المفوضة أكثر قدرة بكثير. لأول مرة منذ عدة قرون، في مواجهة تهديد مشترك، تطلع الناس في اسكتلندا إلى إدنبرة من أجل القيادة، فيما تطلع أولئك الموجودون في ويلز إلى كارديف. وكانت الحقيقة المرة أن وزيريهما الأولين، نيكولا ستورجون ومارك دراكفورد، لم يحتاجا إلى أن يكونا رائعين بشكل مذهل لكي يبدوا مثيرين للإعجاب مقارنة بجونسون الذي أحدث تلك الفوضى.
وتحت مهزلة بريكست السياسية تكمن مأساة الفقر اليومية. بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية عن آخر تقييم لميزانيتها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قال بول جونسون، مدير معهد الدراسات المالية الذي اتخذ لندن مقراً له: “الحقيقة هي أننا أصبحنا أكثر فقراً”. وشبه السياسات الأخيرة الكارثية للبلاد (التي تضمنت، إلى جانب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، التخفيضات غير المدروسة في ميزانية التعليم والاستثمارات الاجتماعية الأخرى) بـ”سلسلة من الأهداف الاقتصادية الخاصة”. وفقاً لمكتب مسؤولية الميزانية Office for Budget Responsibility، وهو هيئة مستقلة لمراقبة الإنفاق، من المتوقع أن تنخفض مستويات المعيشة بنسبة سبعة في المئة بشكل مثير للقلق خلال العامين المقبلين، وقد يتساوى مستوى الانكماش الاقتصادي في البلاد مع ذاك المسجل في روسيا. منطقياً، يمكن اعتبار هذا الضرر من صنع الذات، ولكن استخدام هذا الوصف يطرح سؤالاً محرجاً، وهو أي “ذات” قومية بالتحديد فعلت ذلك. بعد كل شيء، رفض الناس في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بشكل قاطع، إذ لديهم أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الكارثة الاقتصادية التي تلت ذلك فرضها عليهم الإنجليز على نحو غير ضروري.
في الواقع، منذ ثمانينيات القرن الماضي في الأقل، كانت الدول الأصغر في المملكة المتحدة تفكر في أوروبا بشكل مختلف تماماً عن نظيراتها الإنجليزية. قبل انضمام المملكة المتحدة إلى ما كان يعرف آنذاك بالمجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1973، كان جميع القوميين تقريباً، الإنجليزيين، والإيرلنديين الشماليين، والاسكتلنديين، والويلزيين، لا يثقون بها ويخشونها باعتبارها دولة عظمى مزدهرة من شأنها أن تدمر تفردهم. (في عام 1975، عندما أجرت المملكة المتحدة استفتاءها الأول حول استمرار عضويتها في المجموعة الاقتصادية الأوروبية، ادعى الحزب الوطني الاسكتلندي أن البقاء في أوروبا “سيوجه ضربة قاضية لوجود [اسكتلندا] بصفتها دولة”) وعلى رغم ذلك، مع توسع الاتحاد الأوروبي ليصبح متعدد اللغات أكثر من أي وقت مضى، بدأ يقدم للفئات غير الإنجليزية في المملكة المتحدة نوعاً جديداً من الحماية من لندن: هيئة دولية يمكنهم من خلالها الدفاع عن مصالحهم الخاصة والبقاء على اتصال بقوى أكبر ولكن من دون الخضوع لسيطرة تلك القوى. وهكذا، في عصر الاتحاد الأوروبي، عزز الحزب الوطني الاسكتلندي التوسع السريع في العلاقات التجارية والمهنية بين اسكتلندا والقارة، مما سمح له بالتخلي عن صورته الرجعية وإظهار نفسه على أنه عصري، ومنفتح، وعالمي، وأوروبي.
على النقيض من ذلك، كان القوميون الإنجليز يميلون إلى رؤية أي توحيد للسيادة مع بروكسل خيانة لمصيرهم الأسمى. وكما قال إينوك باول، الوزير السابق ذو النفوذ الكبير والعضو اليميني في البرلمان، في عام 1977، فإن “الخضوع لقوانين لم تسنها هذه الأمة” أثار الإمكانية المؤلمة “بأنه قريباً… لن يتبقى لنا شيء لنموت من أجله”. لم يكن من قبيل المصادفة أن باول، وورثته السياسيين مثل زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة السابق نايجل فاراج، جمعوا بين المعارضة لعضوية الاتحاد الأوروبي من جهة والغضب ضد المهاجرين من جهة أخرى: فكلاهما دافع عن استسلام العظمة الإنجليزية للتدخل الأجنبي.
ومن هذا المنطلق، أصبحت القومية الإنجليزية اليوم غريبة ومنعزلة وسط الحركات القومية في المملكة المتحدة: أي إنها، بتعبير أوضح، أصبحت يمينية، ومعادية للمهاجرين، وتحن إلى عظمة الماضي، والأهم من كل شيء، معادية لأوروبا. والسبب وراء ذلك جزئياً هو الاستياء المبرر من الطريقة التي تركت بها إنجلترا من دون هويتها السياسية بسبب اللامركزية التي اعتمدها توني بلير. خلافاً لنظرائها الاسكتلنديين والإيرلنديين الشماليين والويلزيين، لم تتجلَّ الهوية الإنجليزية بشكل إيجابي في الحياة السياسية. ظلت مفككة وغير واضحة، إلى أن منحها استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سبباً وفرصة، لكن الأمر الذي لم يأخذه في الاعتبار أي شخص تقريباً كان يفكر في مستقبل وحدة المملكة المتحدة هو أن ثورانها القومي الأكثر نجاحاً قد لا يأتي من المناطق السلتية الواقعة على الأطراف بل من قلب إنجلترا.
يمكنك تسجيل خروجك، ولكن لا يمكنك المغادرة فعلياً
لم يؤد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بالطريقة التي اعتمدها السياسيون والناخبون الإنجليز، إلا إلى زيادة الاستياء من المملكة المتحدة في كل من إيرلندا الشمالية واسكتلندا. وفقاً لأحدث تقرير صادر عن استطلاع موثوق عن الموقف البريطاني، فإن أكثر من نصف سكان اسكتلندا، أي 52 في المئة، يقولون الآن إنهم يفضلون الاستقلال الاسكتلندي، على رغم أن 45 في المئة فقط صوتوا لصالحه في استفتاء عام 2014. وعلى نحو مماثل، فإن نسبة الأشخاص في إيرلندا الشمالية الذين يرغبون في مغادرة المملكة المتحدة والانضمام إلى بقية إيرلندا، سجلت ارتفاعاً كبيراً، علماً أنها نادراً ما تجاوزت 20 في المئة قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. الآن، ما يقارب 30 في المئة يؤيدون إيرلندا الموحدة، وفي المقابل بلغت نسبة مؤيدي البقاء في المملكة المتحدة 49 في المئة فحسب، أي إنهم ما عادوا يشكلون أغلبية، أما الباقي فيبدون تردداً ويمكن إقناعهم بأي من الاتجاهين. واللافت للنظر بشكل خاص هو التداخل المتزايد بين أولئك الذين صوتوا للبقاء في الاتحاد الأوروبي وأولئك الذين يبتعدون الآن عن الهوية البريطانية. وفي اسكتلندا في عام 2016، فإن نسبة مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي الذين فضلوا الاستقلال لم تتجاوز 44 في المئة. أما حاضراً، فقد وصلت النسبة إلى 64 في المئة. وفي إيرلندا الشمالية، أراد 64 في المئة من الذين صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي أن يبقوا أيضاً في المملكة المتحدة، بيد أن هذه النسبة تراجعت الآن إلى 37 في المئة فقط.
هذا الاتجاه ليس مجرد مسألة إحساس وعواطف. في الواقع القانوني، أدى بريكست إلى البدء بعملية فصل إيرلندا الشمالية عن بريطانيا العظمى. في نوفمبر 2022، أخبر وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي إحدى لجان مجلس العموم أن إيرلندا الشمالية جزء لا يتجزأ من المملكة المتحدة وكذلك الأمر بالنسبة إلى دائرته الانتخابية في شرق إنجلترا. وقال: “إيرلندا الشمالية. شمال إسكس. يشكلان جزءاً من المملكة المتحدة”. لكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جعل إيرلندا الشمالية مختلفة تماماً عن شمال إسكس، إذ بقيت إيرلندا الشمالية في السوق الموحدة والاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، وذلك بفضل بروتوكول إيرلندا الشمالية المثير للجدل الموقع ضمن اتفاقية بريكست، في حين أن شمال إسكس وبقية الدول، غادرت السوق الموحدة والاتحاد الجمركي. هذا يشكل سابقة غير عادية. لم يكن من الممكن أن يسمح أي نظام حكم واثق من صلاحيته المستقبلية بأن يحكم أجزاءه نظام دولي مختلف تماماً، وكان كل من جونسون وماي التي تولت المنصب قبله مباشرة، قد أنكرا بشدة إمكانية حدوث مثل هذا الترتيب، ولكن في النهاية، فإن الحاجة إلى “تنفيذ بريكست”، على حد تعبير جونسون، تغلبت على ضرورة الحفاظ على اتحاد بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية.
وعلى رغم ذلك، هناك مفارقة أخرى في التأثير الذي خلفه بريكست على الهويات الوطنية داخل المملكة المتحدة. في مسرحية أخرى كتبها شكسبير لجيمس الأول، “ماكبث “Macbeth، يمزح البواب بشأن تأثير الكحول في “الفسق”: “إنه يثير الرغبة، لكنه يسلب الأداء”. في الواقع، عزز خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بشكل كبير الرغبة في الاستقلال بين الأجزاء المكونة للمملكة المتحدة، وبخاصة اسكتلندا، لكنه يجعل الأداء أكثر صعوبة. فقبل بريكست، كان من الممكن جعل العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية بين إنجلترا واسكتلندا المستقلة أكثر سلاسة من خلال استمرار المشاركة المشتركة في هياكل بروكسل وعملياتها. أما الآن، فإذا بقيت إنجلترا خارج الاتحاد الأوروبي وانضمت اسكتلندا إليه مرة أخرى، ستكون الحواجز بين البلدين هائلة. إذاً، ربما أسهم بريكست في زيادة ميل الاسكتلنديين نحو الاستقلال، لكنه قدم أيضاً مثالاً مخيفاً إلى حد ما على مدى صعوبة ترك الاتحاد، سواء كان أوروبياً أو بريطانياً. وبينما ظلت المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي لمدة تقل عن 50 عاماً، بقيت اسكتلندا في المملكة المتحدة لأكثر من ثلاثة قرون.
حتى آليات إجراء تصويت آخر على الاستقلال مشحونة ومحفوفة بالأخطار. في نوفمبر 2022، قضت المحكمة العليا البريطانية بالإجماع بأن “البرلمان الاسكتلندي لا يملك سلطة التشريع لإجراء استفتاء على استقلال اسكتلندا”. هذا يعني أن استفتاءً مماثلاً لا يمكن أن يعتبر قانونياً ما لم توافق عليه الحكومة البريطانية في لندن. ونيكولا ستورجون [الوزيرة الأولى لاسكتلندا] حذرة وفطنة للغاية لمعرفة أنه من غير الوارد المضي قدماً في هذه الظروف، ولا شك في أن حذرها الطبيعي عززته التجربة المريرة للحكومة الكاتالونية، التي أجرت في عام 2017 استفتاءً غير دستوري وفاشل في نهاية المطاف بشأن الاستقلال عن إسبانيا. لذا، ردت على الحكم بإعلانها أن تصويت اسكتلندا في الانتخابات العامة البريطانية المقبلة سيكون استفتاء على الاستقلال “بحكم الواقع”، لكن هذا النهج أيضاً مليء بالشكوك: الانتخابات العامة ليست استفتاء، وإذا فازت الأحزاب المؤيدة للاستقلال بالأغلبية، فلن يكون من الواضح كيف يمكن تنفيذ أهدافها من دون موافقة لندن.
من غير المحتمل أن يحدث سعي جاد من أجل إيرلندا الموحدة قريباً. وربما لم تعد هناك أغلبية وحدوية في إيرلندا الشمالية، ولكن لا توجد أغلبية قومية أيضاً. والاتجاه السياسي الأكثر بروزاً هو العدد الكبير من الناخبين الإيرلنديين الشماليين الذين يقولون إنهم منفتحون على المستقبل ولكنهم ليسوا في عجلة من أمرهم لمغادرة المملكة المتحدة. على المدى الطويل، فإن ازدهار إيرلندا، والآثار الديناميكية لتوافق إيرلندا الشمالية مع الاتحاد الأوروبي، والتغير الديموغرافي فيها، ستزيد احتمال حصول وحدة إيرلندية، ولكن ليس في العقد المقبل.
الإصلاح أو الموت
ما يعنيه كل هذا هو أن المملكة المتحدة قد تحظى بفرصة لإنقاذ نفسها. وسيعتمد كل شيء على من سيشكل الحكومة البريطانية القادمة، علماً أنه يجب إجراء الانتخابات العامة المقبلة في موعد لا يتجاوز يناير 2025، وعلى الأمور التي ستفعلها تلك الحكومة بشأن الإصلاح الدستوري. والجدير بالذكر أن رئيس الوزراء الحالي، ريشي سوناك، تكنوقراطي في الصميم ويبدو أنه لا يهتم بسياسات الهوية. وعلى رغم ذلك، إذا ظل الواقع الاقتصادي يبدو قاتماً، فقد لا يكون لدى حزبه سوى خيار مضاعفة الدفاع عن الهوية البريطانية القديمة التي عفا عليها الزمن. وإن حزب المحافظين العنيد الذي قد يفوز بطريقة ما بإعادة انتخابه من خلال مناشدة الناخبين الإنجليز الوقوف بحزم ضد الاسكتلنديين المتمردين والالتفاف حول النظام السياسي الحالي يمكن أن يحول عملية تفكيك تدرجية إلى أزمة فورية. ليس من الصعب أن نتخيل أنه في خضم الركود الاقتصادي المتزايد وفي ظل الكراهية التي تكنها بالفعل صحافة حزب المحافظين في إنجلترا لستورجون (في ديسمبر 2022، قارنتها إحدى المقالات في صحيفة روبرت مردوخ ذا صن The Sun مع القاتلة المحترفة روزماري ويست)، وفي الواقع قد يستمتع بعض المحافظين بحرب خطابية “وطنية” ضد القوميين الاسكتلنديين والويلزيين، لكن النتيجة ستقتصر على زيادة حدة الانقسامات وتسريع اقتراب نهاية المملكة المتحدة.
وعلى رغم ذلك، فالاحتمال المطروح حالياً هو أن زعيم حزب العمال كير ستارمر سيكون رئيس الوزراء المقبل. لقد صادق ستارمر على خطة وضعتها لجنة برئاسة رئيس الوزراء السابق (والاسكتلندي الفخور) غوردون براون، لتنظيف البرلمان البريطاني، واستبدال مجلس ثانٍ منتخب يمثل “الأمم والمناطق” بمجلس اللوردات غير المنتخب، وتفويض مزيد من السلطة للحكومات المحلية في ما يسميه براون “أكبر انتقال للسلطة خارج وستمنستر… تشهده بلادنا”. وإذا وصل ستارمر إلى السلطة، قد لا يكون متحمساً جداً للتخلي عنها. وحتى هذه الإصلاحات قد لا تكون كافية لإنقاذ المملكة المتحدة. وتبدو الحجة لإنشاء دولة فيدرالية بالكامل حجة قوية. لقد نجحت في المناطق التي كانت خاضعة للهيمنة البريطانية سابقاً في كندا وأستراليا. إذا كانت كيبيك، التي اقتربت جداً من التصويت على الاستقلال في عام 1995، قد استقرت كمجتمع متميز داخل اتحاد أكبر، أليس من الممكن أن ينجح الأمر نفسه بالنسبة إلى اسكتلندا وويلز؟ لكن العادة الإنجليزية في التخبط، وهي ما سماه ونستون تشرشل “كاي بي أو “KBO، أي “الاستمرار في الفوضى مهما كانت النتيجة” [مهما حصل، استمروا في ما تفعلونه] تشكل قوة هائلة تدفع إلى التقاعس والجمود.
أنشأت المملكة المتحدة نسخة تجريبية من الديمقراطية في القرن الثامن عشر: مبتكرة وتقدمية في عصرها ولكن منذ ذلك الحين تجاوزتها النماذج الأحدث. وعلى رغم ذلك، كانت البلاد مترددة للغاية في التخلي حتى عن أفظع المفارقات التاريخية والإجراءات التي عفا عليها الزمن. وكان أكبر تحول في حكمها هو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن تم التراجع عنه. لذا، عليها الآن أن تتخذ خياراً مهماً ووجودياً، بين تكوين صورة جديدة تماماً للمملكة المتحدة والتمسك العنيد بما تفعله [كاي بي أو]. إذا فضلت الخيار الثاني، فسوف تستمر في التخبط إلى أن تتسبب لنفسها بالزوال.
- فينتان أوتول أستاذ في الآداب الإيرلندية في ميلبرغ في جامعة برينستون. وهو مؤلف كتاب “نحن نجهل أنفسنا: التاريخ الشخصي لإيرلندا الحديثة”
عدد مارس / أبريل (آذار/ نيسان) 2023 من فوريز أفيرز
المصدر: اندبندنت عربية