وفد من اتحاد البرلمانيين العرب يزور دمشق ليبايع بشار الأسد أمام الكاميرات بأشد العبارات ابتذالاً واتضاعاً. على رغم معرفتنا بكيفية ترتيب هذا النوع من الفعاليات من وراء كواليس السياسة القذرة بواسطة الرشوة المباشرة، تبقى هذه «التظاهرة» مهمة من حيث أنها تعكس المزاج السائد لدى الأنظمة العربية بأكثر مما تفعل زيارات وزراء خارجية عرب إلى دمشق أو زيارات رأس النظام الكيميائي لعواصم عربية كأبو ظبي ومسقط، أو التصريحات الإعلامية التي تدعو، مباشرةً أو مداورةً، إلى إنهاء عزلة النظام.
فنحن نعرف من تجربتنا التاريخية أن أولئك «البرلمانيين» يمثلون الأنظمة التي ارتضت بتعيينهم ثم نظمت انتخابات صورية لـ«انتخابهم» من قبل «الشعب» ليكونوا أبواقاً لها. ما يتحرج الحكام العرب من إظهاره من نفاد صبر لطي صفحة ثورات الشعوب العربية من خلال احتضان السفاح السوري، عبر عنه ممثلوهم وأبواقهم الذين «تشرفوا» باستقباله لهم. فهنيئاً لهم ولمن يختبئ وراءهم بهذا «الشرف».
من المحتمل أن الضحكة العريضة لبشار الأسد أثناء زيارته لمستشفيات حلب، بمناسبة الزلزال، لا تعود حصراً إلى بلاهته المعروفة، بل أساساً لأن مصادره قد أعلمته بأن كارثة الزلزال ستفتح أمامه فرصاً كبيرة وتهافتاً عليه من قبل أنظمة عربية تريد مكافأته على دوره الكبير في تحطيم أفق التغيير الذي ظهر في أواخر عام 2010 بدءاً من تونس. فالسفاح السوري الذي كان غارقاً في عجزه عن إدارة شؤون المناطق التي يسيطر عليها الروس والإيرانيون، وضاق الخناق على تجارة مخدراته، ولا يتركه الإسرائيليون يلتقط أنفاسه بين غارة وأخرى، وتوقف الأمريكيون عن الحديث عن الانسحاب من خزان النفط والحبوب في سوريا، وتوقف الإيرانيون عن مده بمشتقات البترول، وتراجعت أهمية نظامه على سلم أولويات فلاديمير بوتين بعد غرق هذا الأخير في الورطة الأوكرانية، وتباطأت خطوات تطبيع تركيا معه بسبب اختلاف اهتمامات الطرفين… جاءه الزلزال الذي أكمل مهمة براميله المتفجرة فقتل نحو خمسة آلاف سوري يضافون إلى رصيد الأسد من الضحايا، هديةً من تحت الأرض لتفتح له أبواب عواصم عربية إضافية، وباب اجتماع القمة العربية المقبل كاحتمال مرجح، ليعود إلى توبيخ زملائه من الحكام كما اعتاد أن يفعل في السنوات السابقة على عام 2011، وهم يستحقون ذلك، والحق يقال، فمن يحب الأسد عليه أن يتحمل بذاءاته. من هذا المنظور يحق للأسد وإعلامييه أن يتبجحوا قائلين «ليست سوريا من عادت إلى الحضن العربي، بل هم الذين عادوا إليها».
والحال أنه ليس مهماً من عاد إلى من، فما يجمع بينهم وبينه أكثر مما يفرق بكثير. العلاقة مع إيران؟ ما أهميتها بالمقارنة مع الخطر الشديد الذي يتفق الطرفان على أنه قادم من قاع المجتمعات العربية في تلك الثورات التي أسقطت الحكام كأحجار الدومينو، وأصيب من تبقى منهم بالهلع الشديد، فرصدوا ميزانيات ضخمة لإغراقها بكل ما من شأنه القضاء عليها. الحل السياسي؟ أليس هو استعادة الاستقرار بأي طريقة؟ فإذا عجز الأسد عن ذلك ببراميله أنجده الإيرانيون بسواطيرهم والروس بطائراتهم والعرب بالانفتاح عليه. الكبتاغون؟ ادفعوا له بمقدار ما يكسبه في هذه التجارة، فيتوقف عن مزاولتها. اللاجئون؟ أقنعوهم بأن الأسد تحول إلى ملاك رحمة وحوّلوا شروط لجوئهم إلى جحيم فيعودون مكبلين بالأغلال. لا تعجز السياسة عن إيجاد الحلول، فلهذا وجد هذا الفن.
نقرأ ما تنشره الصحف من تصريحات وتحليلات حول اشتراطات مزعومة للانفتاح على سفاح دمشق. فالأسد لا يتغير! هو وإعلامه يتبجحون بذلك بحق. هم ربما يريدونه أن يتظاهر بشيء من التغير، أن يظهر على غير حقيقته المسجلة في جرائمه وفظاعاته ليسهل عليهم تبرير عودتهم إليه. لكنه مبدئي في إجرامه، خذلهم وسيخذلهم المرة بعد المرة في مسعاهم. الأحرى أن يتخلوا هم عن التظاهر بالحرج في تعاملهم معه، وبذلك يصبح التطبيع ممكناً. نظام الأسد لا يعطي بل يأخذ، من أراد التعاطي والتطبيع معه أن يعتاد على ذلك.
يقال إن الموقف الأمريكي الرافض للتطبيع مع نظام الأسد هو الذي كان يمنع دولاً عربية من المضي في الطريق إلى دمشق. واشنطن، التي لم تستطع أن تفرض على تركيا اتخاذ موقف حازم من العدوان الروسي على أوكرانيا، ماذا يمكن أن تفعل مع أنظمة عربية متلهفة لاستعادة العلاقات مع نظام الأسد، في حين أنها هي نفسها غير مهتمة بالمشكلة السورية؟ الواقع أن «الحلفاء التقليديين» لواشنطن قد مضوا بعيداً في تطوير علاقاتهم مع روسيا نفسها من غير خشية من الحليف الأمريكي. حقيقة الأمر أنهم تمهلوا خلال السنوات الماضية في موضوع التطبيع مع نظام الأسد كي تتقدم هذه العملية بصورة متدرجة فلا تشكل صدمة صعبة الابتلاع. وهي أساساً لم تكن مستعجلة في المضي في هذا المسار، فلتنضج الأمور على نار هادئة وإن كانت ناراً تحرق السوريين في الداخل والشتات. هذا أيضاً مهم بذاته، فما لم يدفع السوريون ثمن تمردهم لن يعودوا صاغرين إلى عبوديتهم كما يراد لهم.
المصدر: القدس العربي