“ليس لدى القاهرة سوى القليل من البدائل”.. بهذه الكلمات قدم تقدير لمؤسسة “كلينجينديل” المستقلة للشؤون الدولية، خلاصة بشأن حاجة “النظام الاستبدادي” في مصر إلى تقديم المزيد من التنازلات إلى المجتمع الدولي للحصول على شرائح جديدة من تمويل صندوق النقد الدولي.
وأورد التقدير، الذي ترجمه “الخليج الجديد”، أن نوفمبر/تشرين الثاني 2022 شهد توجيه العالم أنظاره إلى شرم الشيخ في مصر، التي استضافت مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ 2022 (كوب 27)، بينما سعت حكومة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى الترويج لمصر كمقصد سياحي واستثماري جذاب، اتهمها منتقدوها بـ “الغسيل البيئي” للتستر على سجلها الحقوقي السيئ.
وفي محاولة لوقف مثل هذه الانتقادات في مهدها، رفع السيسي حالة الطوارئ، وأطلق حوارًا مع المعارضة، وأطلق سراح المئات من السجناء السياسيين، ورغم هذه المبادرات، استمر وجود آلاف السياسيين في السجن، وتعرض المنظمات غير الحكومية المصرية لمضايقات غير مسبوقة من قبل الدولة.
وأدى عدم وجود تغييرات جوهرية إلى إثارة التساؤلات حول النوايا الحقيقية للحكومة المصرية.
وفي ظل هذه الخلفية، يواجه السيسي حاجة لتقديم المزيد من التنازلات إلى المجتمع الدولي للحصول على شرائح جديدة من تمويل صندوق النقد الدولي.
والبدائل لمثل هذا الإجراء محدودة إذا كانت مصر راغبة في الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي؛ لأن دعم صندوق النقد الدولي ضروري لمعالجة انخفاض سعر صرف الجنيه وتجنب أزمة الديون المتصاعدة وإصلاح ماليتها العامة التي تعرضت لضربة من جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا.
وقد يولد النفوذ المالي لصندوق النقد الدولي، في سياق الاحتياجات المالية لمصر، مسارًا ضيقًا لتحقيق إصلاحات إضافية حول تحسين الحوكمة، وهو ما يظل ممكنًا ضمن معايير الحكم الاستبدادية في البلاد.
ويكمن جوهر الموضوع في مدى استعداد الصندوق لاعتماد المزيد من الشروط من خلال المطالبة بإجراءات أكثر صرامة لمكافحة الفساد والحد من الدور المهيمن للجيش في الاقتصاد.
فالحد من الفساد والنفوذ العسكري ضروريان لتجنب إهدار أموال دافعي الضرائب الدوليين وتقليل التبعية الخارجية طويلة الأجل للاقتصاد المصري، الذي يمر بمياه مضطربة ويواجه مشاكل خطيرة تلوح في الأفق.
ففي سبتمبر/أيلول الماضي، سجل البنك المركزي المصري معدل تضخم بلغ 15%. وكان الدولار آنذاك يساوي 15.7 جنيهًا مصريًا في يناير/كانون الثاني 2022 و29.8 جنيهًا ضخمًا في نهاية يناير/كانون الثاني 2023. فيما وصل عجز الميزانية السنوية لمصر مؤخرًا إلى 6.1%.
ونما دين مصر الخارجي من 39.62 مليار دولار أمريكي في عام 2014 إلى 160 مليار دولار أمريكي اليوم، ومن المتوقع أن يصل إلى 260 مليار دولار أمريكي في عام 2024. كما أن الأسواق ليست واثقة تمامًا من أن مصر ستسدد ديونها.
القروض والشروط
وتعمل المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد، على تأمين الاستقرار المالي العالمي وتعزيز التعاون النقدي العالمي. في بعض الحالات، يمكن أن تؤدي الحاجة إلى قروض صندوق النقد الدولي في دول مثل مصر إلى تحفيز الإصلاحات الاقتصادية المحلية التي تعمل أيضًا على تحسين الحوكمة.
وبشكل عام، تشير الأبحاث إلى أن النفوذ المالي للمؤسسات المالية الدولية يمنحها “قدرة متواضعة” للضغط من أجل الإصلاحات السياسية في الدول الاستبدادية إذا احتاجت الحكومة إلى أموال أجنبية للبقاء على قيد الحياة.
يقدم الحاكم الكونغولي، ساسو نغيسو، مثالاً على كيفية عمل ذلك، إذ قلص انتهاكات حقوق الإنسان وسمح بمراجعة حسابات شركة النفطية الحكومية في الفترة من 2006 إلى 2010 للإعفاء من ديون صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
فعندما تصبح القروض الأجنبية لا غنى عنها للحكومة المستفيدة، يمكن للمستثمرين والمانحين الأجانب المطالبة بإجراءات إصلاحية تتجاوز مجال الاقتصاد الكلي، لتحسين المساءلة والحد من الفساد.
ومع ذلك، فإن أول قروض من صندوق النقد الدولي لحكومة السيسي، في عامي 2016 و 2020، لم تتضمن سوى مطالب اقتصادية نموذجية مثل تحرير سعر الصرف وخفض الإنفاق الحكومي. وساهم هذا الترتيب في نتائج مختلطة فيما يتعلق بالأداء الاقتصادي.
فمن ناحية، ساعد ذلك في تحقيق نمو ثابت للناتج المحلي الإجمالي بعد عام 2016. ومن ناحية أخرى، ساء أداء مصر الاقتصادي على العديد من المؤشرات الأخرى، مثل معدل المشاركة في القوى العاملة.
وبشكل عام، لم تتم معالجة التحديات الأعمق التي تمثل جذور المتاعب الاقتصادية في مصر، حيث استمر الفساد والدور المهيمن للجيش في الاقتصاد في إعاقة الأداء الاقتصادي والحد من فعالية قروض صندوق النقد الدولي.
وفي 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022، توصل صندوق النقد الدولي والقاهرة إلى اتفاق بشأن حزمة قروض رابعة ومنح الحكومة المصرية قرضًا بقيمة 3 مليارات دولار.
وجاء هذا المبلغ مخفضا من أصل 12 مليار دولار أمريكي طلبتها مصر، حيث لم يتمكن الطرفان من الاتفاق على عدة شروط، منها مطالبة الصندوق بأن تقلص الحكومة المصرية والجيش تأثيرهما في الاقتصاد.
ومع ذلك، فإن تقريرًا للصندوق، أكثر تفصيلاً، عن صفقة أكتوبر/تشرين الأول 2022، أورد التزام مصر بإجراءات تهدف إلى تقليل البصمة الاقتصادية للجيش، مثل تقليل المزايا التجارية للشركات المملوكة للدولة أو التابعة للجيش.
فرص إصلاحية
ثمة توقعات بحصول مصر على قرض إضافي من صندوق النقد الدولي بقيمة 6 مليارات دولار أمريكي عبر عدة جهات مانحة في عام 2023، بالإضافة إلى أقساط القرض السابق، البالغة 3 مليارات دولار أمريكي.
ويوفر ذلك فرصة لدفع إصلاحات الحوكمة والفساد كخطوة إضافية لشروط القروض، في محاولة للوصول إلى جذور المشاكل الاقتصادية بمصر.
وتتماشى الظروف بشكل إيجابي مع متابعة مثل هذه الاستراتيجية لأن اتفاقية صندوق النقد الدولي الأخيرة لن تكون كافية على الأرجح.
ومن المتوقع أن تستمر قيمة الجنيه المصري في الانخفاض وأن ترتفع الأسعار، ما يخلق مشكلة في ميزان المدفوعات للاقتصاد المصري المعتمد على الاستيراد.
ونتيجة لذلك، قامت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني مؤخرًا بتعديل النظرة المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية، على الرغم من صفقة صندوق النقد الدولي.
ويمكن للحكومات الغربية، التي تمارس سلطة كبيرة في صنع القرار بصندوق النقد الدولي، أن تطالب بإصلاحات تتمثل في تشديد إجراءات مكافحة الفساد والمطالبة بمزيد من الشفافية لزيادة تأثير الإنفاق العام.
والسوابق لذلك موجودة بالفعل، ففي عام 2020، أجبر صندوق النقد الدولي القاهرة على نشر جميع نفقاتها المتعلقة بجائحة كورونا وخطط المشتريات والعقود التي منحتها.
وكجزء من أحدث صفقة مع صندوق النقد الدولي، وعدت مصر بإدراج الشركات المملوكة للدولة والتابعة للجيش في قائمة الكيانات الحكومية التي تنشر تقارير الإنفاق السنوية.
وخلال الجولة التالية من التفاوض، يمكن لصندوق النقد الدولي أن يأخذ هذا الأمر إلى أبعد من ذلك ويطالب بالشفافية الكاملة حول كيفية إنفاق قروضه، ويطالب بآليات المساءلة وكذلك هيئات الرقابة لضمان الإنفاق الفعال.
وعلى المستوى العملي، قد يعني هذا إنشاء سجل عام على الإنترنت يتتبع النفقات من لحظة تحويل الأموال من الصندوق إلى النقطة التي يتم عندها إنتاج المخرجات. وقد يكون ذلك أداة مفيدة في مواجهة المقاومة العسكرية أو السياسية لتنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي بمصر.
الخطوة الثانية من الأعمال هي المطالبة بإصلاحات تخفف إلى حد ما قبضة الجيش المصري المشددة على الاقتصاد القومي.
ويعد هذا تدخلاً مشروعًا من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، حيث يمكن القول إن التدخل الاقتصادي المكثف للجيش المصري يقوض جدوى وفعالية برامج إصلاح الصندوق.
وفي حين تجاهل الصندوق سابقا المكانة المتميزة للجيش داخل الاقتصاد المصري، فإن مراجعته للقرض الذي منحه للقاهرة في يوليو/تموز 2021 أشارت ضمنيًا إلى ضرورة إدراج الشركات المملوكة للدولة والتابعة للجيش في إصلاحات القطاع العام.
وافقت الحكومة المصرية مؤخرًا على إدخال تلك الشركات في نطاق إصلاحات صندوق النقد الدولي، كما ألغت إعفاءات الشركات التابعة للجيش من الضرائب والأنظمة المالية وعمليات التفتيش.
ويمكن أن تبدأ مثل هذه التغييرات في استعادة التوازن بين القطاعين الخاص والعام في مصر، وبما أنه من المرجح أن تقاوم المؤسسة العسكرية هذه الإصلاحات، فإن إصرار المانحين بصندوق النقد على الوقوف بحزم يعد أمرا ضروريا، وكذلك المراقبة الصارمة للتنفيذ.
وفي المحصلة، يجب على صندوق النقد الدولي والدول المانحة الاستفادة من الوضع المالي غير المستقر للقاهرة واعتمادها على القروض الخارجية لجعل شروط الإصلاحات حقيقة واقعة، والدفع نحو المزيد من الإصلاح الهيكلي ضمن المعايير العريضة للتسوية السياسية “الاستبدادية” في مصر.
المصدر | كلينجينديل – ترجمة وتحرير الخليج الجديد