تسعى التركيبة الحاكمة في لبنان إلى إحداث اختراق في ما تسمّيه “الحصار الخارجي” عليها لأسباب عدّة، عبر استجلاب المساعدات للبلد الغارق في شبه ظلمة كهربائية وسياسية، وسط استمرار عجز حكومة حسان دياب عن إحداث تقدّم في تحقيق المطلوب منها على صعيد الإصلاحات الهيكلية، بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. فالدول المعنيّة بمساعدة لبنان تنتظر من الحكومة أن تعطي مؤشراً أولياً يشجّع تلك الدول على توفير الدعم المالي، ما قد يسهم في إطلاق خطة التعافي الاقتصادي.
وتتأرجح مواقف هذه التركيبة في سعيها هذا، بين تبرير إحجام الدول عن مساعدة لبنان باتهام قيادات بتحريض البلدان على الامتناع عن تقديم المساعدة الاقتصادية، كما فعل رئيس الحكومة حسان دياب، وبين ترويج إعلامي عند أي تواصل مع الدول لمساعدات ستأتي بالمن والسلوى.
اللازمة المزدوجة: الإصلاحات والنأي بالنفس
ومع أنّ ما صدر علناً عن دول رئيسة معنية بهذه المساعدة بات واضحاً، وهو اشتراط البدء بالإصلاحات والنأي بالنفس فعلاً لا قولاً عن صراعات المنطقة، لا سيما من قبل “حزب الله”، فإنّ هذه اللازمة المزدوجة دفعت بعض المسؤولين إلى خفض سقف الترويج لما يمكن أن ينتج من الاتصالات مع الخارج، وإلى اعتماد الواقعية في طلب المساعدة وحصرها بـ”المساعدات الإنسانية” التي لم يستبعدها المجتمع الدولي.
في هذا الباب تحديداً، تتحدث أوساط دبلوماسية عربية لـ”اندبندنت عربية”، عن تحرّك المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، واصفةً أهدافه بأنها “واقعية تتناول المسائل الحياتية والمعيشية” التي يرزح تحتها اللبنانيون، طالما أن الدعم للنهوض بالاقتصاد مرتبط بالشرطَيْن الآنفَيْن المتعلّقَيْن بالإصلاحات والنأي بالنفس.
تواضع مطالب اللواء ابراهيم
وتقول هذه الأوساط إنّ تحرّك اللواء ابراهيم بزيارته دولة الكويت وقبلها قطر ولقائه السفير السعودي لدى بيروت وليد بخاري، لم يتجاوز عنوان المساعدة الإنسانية، بالتالي لم “يكبّر حجره” كما يقول المثل الشائع، لإدراكه أن هناك ما يجب على الحكومة القيام به قبل طلب أي دعم مالي كبير. حرص ابراهيم على شرح أهداف تحرّكه بحسب هذه الأوساط، في مسعى لتأمين الفيول أويل لمعامل الكهرباء، وتأمين شراء المواد الغذائية التي يحتاج إليها لبنان، وبتصدير تلك التي تنتجها البلاد من الزراعة إلى هذه الدول، لأن هذين الموضوعين هما اللذان يثقلان كاهل المواطن اللبناني هذه الأيام.
ولا يهتم اللواء ابراهيم بما تنويه الحكومة من خطوات، وما تعانيه من عثرات ولا بالسياسات التي تعمل عليها، بقدر ما يهتم بإيجاد حلول مؤقتة للمعاناة الراهنة لعموم اللبنانيين. فشبه العتمة التي يعيش في ظلها الشعب منذ أسابيع، نتيجة النقص في مادة الفيول، هي التي أعادت تحريك التظاهرات وعملية إقفال الطرقات، احتجاجاً على استمرار انقطاع التغذية بالتيار، بما فيها المناطق الخاضعة لنفوذ “حزب الله” التي يعاني أهلها مثل سائر اللبنانيين، ما اضطُر الحزب إلى النزول على الأرض لفتح هذه الطرقات، خصوصاً طريق مطار رفيق الحريري الدولي. ويضاعف الغلاء الجنوني في أسعار المواد الغذائية اليومية غضب الشارع.
أوهام التركيبة الحاكمة و”حزب الله”
وحصر اللواء ابراهيم طموحاته في مناقشاته مع الدول العربية التي تواصل معها، بهذين العنوانين على الرغم من أنه تطرّق مع مسؤوليها إلى أمور أخرى. فقد مضت أسابيع ووعود وزير الطاقة ريمون غجر بقرب رسو بواخر تحمل الفيول أويل على الشاطئ، من أجل رفع ساعات التغذية بالطاقة الكهربائية، تخيب، بعدما برّر النقص في مادة المازوت الذي يستخدمه أصحاب المولدات الخاصة لتزويد عموم المستهلكين بالكهرباء بأنه “تبخر”، بينما الحقيقة أنه جرى تهريبه إلى سوريا، والجزء الآخر خُزّن لبيعه بأسعار أغلى لاحقاً. تارة يرفض مصرف دولي فتح اعتماد لوزارة الطاقة من أجل استيراد الفيول، بفعل المخاوف من قدرة لبنان على تسديد ما يتوجّب عليه، وأخرى تصل باخرة يتبين أن مواصفات حمولتها التي يتم شراؤها في عرض البحر، لا تتطابق مع ما تحتاج إليه مولدات كهرباء لبنان فتعود أدراجها. والمواطن يدفع الثمن.
حصل ابراهيم على وعود بالنظر في هذا النوع من المساعدة، باعتباره لا يتنافى مع شروط المجتمع الدولي، ومن ضمنه الدول العربية المانحة، بالإصلاحات والنأي بالنفس وتوقّف “حزب الله” عن التدخل في الدول العربية. ولم تخفِ الأوساط الدبلوماسية التي تحدثت إليها “اندبندت عربية”، أنها حرصت على استقبال ابراهيم على قاعدة تواضع أهدافه، خلافاً لأوهام روّجت لها مصادر التركيبة الحاكمة ووسائل إعلامية قريبة من الحزب. فالأخيرة أوحت بأن دعوة الأمين العام السيد حسن نصرالله قبل ثلاثة أسابيع إلى “التوجه شرقاً” أي إلى الصين وإيران وسوريا والعراق، بحجة أن الولايات المتحدة تحجب المساعدات لتجويع اللبنانيين، أقلقت واشنطن، ما دفعها إلى إبداء الاستعداد لمساعدة لبنان. في وقت لم يخرج هذا الاستعداد عن قاعدة اشتراط اللازمة المزدوجة بالإصلاحات والنأي بالنفس ووقف تدخلات الحزب الإقليمية. وهو ما كرّره وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في تصريحه الخميس الماضي والذي سبقه. واعتبر الإعلام الموالي للحزب أن إبداء طهران استعدادها لبناء محطات الكهرباء، وزيارة وفد وزاري عراقي إلى بيروت للتداول بمبادلة لبنان تزويده الفيول بالمواد الزراعية، يدفع الدول الغربية والعربية إلى “استلحاق” الوضع وإغراء البلد بمساعدات من جهتها.
رافقت الترويج لهذا الافتراض تسريبات بأن لبنان لقي إشارات إيجابية لطلبه ودائع مالية من الكويت وقطر في مصرف لبنان. وبلغت الإشاعات حدّ توقّع إيداع زهاء ملياري دولار تعوّض البلد النقص في العملة الصعبة، وتساعد على لجم ارتفاع سعر الدولار.
حقيقة رسالة السيسي وموقف أبو الغيط
ساعد دياب في الترويج لانفتاح دول عربية على الحكومة، بعدما اتهم قيادات لبنانية بأنها تحرّض هذه الدول على عدم تقديم المساعدة لبيروت، بالحديث يوم الثلاثاء الماضي عن مواقف عربية إيجابية من الحكومة، سرعان ما ظهر عكسها.
أوساط الرئاسة اللبنانية استغلّت زيارة قام بها السفير المصري لدى بيروت ياسر علوي حاملاً رسالة إلى الرئيس ميشال عون، من أجل بث معلومات بأن الرئيس عبد الفتاح السيسي أبدى استعداد القاهرة لدعم لبنان، في وقت علمت “اندبندنت عربية” أن الرسالة التي حملها علوي هي جواباً على رسالة سبق لعون أن بعث بها إلى السيسي، يطالبه فيها بالمساعدة في تأمين الدعم للبنان. وأشارت مصادر دبلوماسية إلى أن الرئيس المصري ذكّر نظيره بأهمية الإصلاحات التي تشجّع الدول على تقديم العون، فيما تناول السيسي الشرط الثاني بلغة دبلوماسية، داعياً إلى “إبعاد لبنان عن تجاذبات المنطقة”، كما جاء حرفياً في الرسالة المصرية. فالقاهرة تعتبر أن الوضع اللبناني غير قادر، خصوصاً في ظلّ أزمته الاقتصادية السياسية الراهنة، على احتمال إقحامه في هذه التجاذبات. وخاب أمل الرئيس اللبناني من الجواب المصري.
ترافق ذلك مع موقف للأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، يعكس المناخ المصري والعربي، إذ قال إن “المواطن اللبناني وجد نفسه فجأة، وبسبب ظروف لا دخل له فيها وخارجة عن إرادته، وقد تراجع مستوى دخله تراجعاً مهولاً، وانزلق تحت خط الفقر”. ورأى أن “رد فعل الطبقة السياسية على الأزمة لا يعكس ما كنّا نأمله من استشعار للمسؤولية الوطنية أو الإدراك الكافي لخطورة الموقف الذي يواجه البلد”.
تبديد أوهام وإشاعات
وبدّدت محدودية المطالب التي طرحها اللواء ابراهيم كل هذه الإشاعات، بعد استقباله في الكويت، حيث يحفظ له المسؤولون أنه سهّل استرداد عدد من المواطنين الكويتيين الذين كانوا علقوا في سوريا أثناء جائحة كورونا وبعدها، بتنسيقه الأمر مع السلطات في دمشق، وترتيب عودتهم إلى بلدهم انطلاقاً من مطار بيروت. وقد سبقته إلى بيروت المعطيات بأن الكويت لن تقدم على أي مساعدة من دون التوافق مع السعودية، وأنها تنسجم مع المطلب الدولي بالإصلاحات وبإخراج لبنان من الصراع الإقليمي، لا سيما أن للكويت تجربة سلبية مع “حزب الله” منذ اكتشاف ما يُسمّى “خلية العبدلي”، المموّلة والمدرّبة والمسلحة من قبل الحزب، بغية افتعال تفجيرات وهجمات على القوى الأمنية في الكويت، التي جرى اكتشافها عام 2015 واستمرت الملاحقات لعناصرها حتى عام 2017 حين أصدرت محكمة التمييز أحكاماً في حق أعضائها، جرت مراجعتها عام 2019 .
وردّ رئيس الحكومة السابق زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري على تلميح دياب إليه بالاتصال بدول عربية كي لا تساعد لبنان بالقول، إن خطاب الأخير تدنّى إلى مستوى الخيال وموقع رئاسة الحكومة “تبهدل”، مؤيداً التحرّك الذي يقوم به اللواء ابراهيم مع الدول العربية.
كما أن الأخير أسهم في تبديد الأوهام حين زار السفير بخاري، وتقصّد من مقر إقامته التأكيد أن لبنان لا يتبع أي محور، وأنه يتعلّق بعروبته، مشيداً بالمحطات المضيئة للعلاقة بين بيروت والرياض بصفتها الشقيق الأكبر. وقال إنه لم يقطع علاقته مع الدول العربية، وإن القوى السياسية من دون استثناء تبارك تحرّكه. وهي إشارة واضحة إلى أن مراهنة بعض مَن هم في السلطة على استدراج دعم بعض الدول من دون المرور بالسعودية، لن يُكتب لها النجاح.
النتيجة أن مطلبَيْ الحصول على الفيول أويل والتبادل بالسلع الغذائية قيد الدراسة من الدول التي زارها، فيما المساعدة المالية مرهونة بالشروط المعروفة.
المصدر: اندبندنت عربية