يملك السوريون أكثر من أي شعب في عالم اليوم تاريخاً صعباً من الحاجة إلى دعم الحياة وتحسينها، ليس بسبب قلة الموارد والإمكانات، وهي كثيرة، ولديهم أيضاً ما هو أهم وخلاصته، أن السوريين معروفون بهمتهم العالية في العمل والنشاط، وقدرتهم على خلق شروط أفضل للحياة، وهذه حالة أكدها وجود السوريين في العديد من دول هجروا وهاجروا إليها في العقد الماضي. أبرز محطات الحاجة السورية، حدثت مع ولادة نظام الفساد والاستبداد.
وقد سعى السوريون للتغلب بما أمكن من وسائل لمواجهة سياسة النظام في الإفقار وتعميق الحاجة من خلال الهجرة والاغتراب في أنحاء مختلفة من العالم، وغزو أسواق العمل المتاحة وخاصة في البلدان العربية، حيث نجا جزء، ووقعت الأكثرية تحت عبء الحاجة، وهذا ما وصلت إليه في دراسة لي عن الفقر في سوريا، نشرت في العام 2010، قالت استناداً إلى إحصائيات وتحليلات سورية ودولية، إن معدل الفقر في سوريا، طال آنذاك اثنين من كل ثلاثة سوريين، أي أن ثلثي السكان خرجوا من عهد الأسد الأب، ودخلوا عهد الأسد الابن في حالة من الفقر، وكان ذلك بين الأسباب المؤكدة لثورة السوريين في العام 2011.
ومنذ الأيام الأولى للثورة لجأ النظام إلى جانب عملياته العسكرية – الأمنية إلى تدمير المرتكزات الاقتصادية للحياة السورية؛ إذ فتح أبواب هجرة وتهجير السكان بالتوازي مع تدمير ممتلكاتهم ونهب ما يمكن نهبه في عمليات التعفيش، وعطل الأنشطة الاقتصادية وقطع الطرق، ودمر المرافق والخدمات العامة، وحاصر مدناً وقرى وأحياء في إطار استراتيجيته في تصعيد الحاجة عند السوريين ليسهل إخضاعهم وإعادتهم إلى حظيرته، غير أن وحشيته لم تجبر السوريين على الخضوع، بل اتجهوا وسط حملات تضامن ومساعدة بعضهم بعضاً إلى تأكيد رفض النظام وأطروحاته وسياساته رغم ما حل به من خسائر بشرية ومادية، وتدهور في مستويات حياتهم، وصعوبات في تلبية احتياجاتهم سواء للمقيمين في سوريا واللاجئين في بلدان الجوار القريبة منها، وقد تجاوزت حالات الفقر، التي تحتاج إلى مساعدة ما يزيد على ثمانين في المائة من إجمالي السوريين، حسب الأمم المتحدة. ورغم تمزق سوريا إلى ثلاثة من كيانات الأمر الواقع، فإن نظام الأسد الذي يمثل واحداً منها، سعى طوال الوقت إلى التحكم في المساعدات الدولية، من أجل نهبها، وتوزيع فتات منها على أنصاره ومؤيديه بمساعدة داعميه الدوليين وفي مقدمتهم الإيرانيون، وقد سمح التراخي الدولي، وتخلي بعض الدول عن مسؤولياتها في مساعدة السوريين إلى تردي أحوال السكان في المناطق كافة.
وإذا جاء الزلزال في ظل هذه الحالة، فإنه دفع نحو انهيار شامل، امتد خصوصاً في ثلاثة من مناطق الانتشار السوري، أولها عشر مقاطعات تركية، تمتد في منطقة الشمال الغربي من الحدود المشتركة للبلدين، وهي المنطقة التي تضم قسماً كبيراً من لاجئي تركيا أغلبهم من الفقراء ومتوسطي الأحوال، وإضافة إلى الضحايا من القتلى والجرحى، فقد خسر السوريون هناك كل شيء، وبات عليهم البداية من الصفر – والمثال الفج على ما أصابهم كان في إقليم هاتاي الذي سويت فيه معظم مباني مدينة أنطاكية بالأرض.
والمنطقة الثانية التي ضربها الزلزال كانت منطقة شمال غربي سوريا شاملة ريف حلب ومدينة إدلب وريفها والمسماة بمنطقة السيطرة التركية، وكانت آثار الزلزال فيها شديدة بسبب اكتظاظها البشري، وتوسعها العمراني العشوائي والبعيد عن الرقابة، ودمر الزلزال تجمعات سكانية رئيسية وهدم مساكنها ومرافقها بصورة شبه كاملة، كما حصل في جنديرس التابعة لمدينة عفرين، وجعل أغلب سكانها ضحايا بين قتيل وجريح، وخسر معظم السكان ما يملكون أو كله. وامتدت المنطقة الثالثة في الزلزال عبر مناطق سيطرة النظام. إذ شملت محافظات حلب وحماة وطرطوس واللاذقية، وكانت النتيجة وقوع خسائر بشرية كبيرة من قتلى وجرحى، وخسر بعض سكان تلك المناطق، ما يملكون نتيجة ما سببه الزلزال من دمار وأضرار بمناطق واسعة.
لقد ضاعف الزلزال حاجة السوريين وحوّل ملايين إلى معدمين، وهو وضع كان يفترض بالمساعدات الدولية وتحويلات السوريين إلى أهاليهم، أن تعالجه ولو جزئياً، لكن ما حدث من نتائج، كان أقل من جزئي بفعل ظروف وأسباب بعضها أحاطه الغموض والبعض الآخر كان مفهوماً من خلال روابط واعتبارات سياسية، أو لأسباب مصلحية، سواء كانت مصالح دول وحكومات وجماعات، وكلها أدت في النهاية إلى عجز المساعدات عن تلبية الحاجة السورية بالدرجة الممكنة، وليس المطلوبة؛ لأن المطلوب كثير.
إن ما يفسر عجز المساعدات، يتمثل بصورة أساسية في مسارها ومحتواها ومآلها النهائي، وفي هذا يمكن تسجيل أربع ملاحظات، أولى الملاحظات تأخر المساعدات، وكان ذلك واضحاً في وصولها ثم في مرورها عبر معابر إلى مناطق الحاجة، مما زاد في معاناة الضحايا، وأثبت فشلاً في امتصاص قوة الصدمات الأولى من الزلزال، وتقوية الضحايا والمناصرين على الاستجابة. والثانية محدودية المساعدات وخاصة تلك التي توجهت لمنطقة شمال غرب، والتي اقتصرت على المساعدات الإسعافية من خيام وأغذية ودواء، وغابت عنها المساعدات الإنقاذية من فرق الإنقاذ والمعدات والتجهيزات؛ الأمر الذي رفع أعداد القتلى بسبب العجز عن رفع الأنقاض والركام عنهم، والملاحظة الثالثة، ضعف التعبيرات المباشرة عن حجم وتأثير المساعدات في البيئات المنكوبة.
رغم ما قيل عن مساعدات كبيرة وصلت إلى مناطق سيطرة النظام، أو تلك التي وصلت عبر تركيا. وإذا كانت الأخيرة توزعت بين مناطق الزلزال في تركيا ومناطق شمال غربي سوريا مما يخفف من تعبيراتها المباشرة، فإن سبب غياب هذه التعبيرات في مناطق سيطرة النظام سببه الرئيسي قيام النظام بالاستيلاء على المساعدات، كما تسربت أنباء عن قيام الإيرانيين الذين يسيطرون على حلب بمسعى للتحكم في مساعدات أردنية وصلت إلى هناك.
والملاحظة الرابعة، تتصل بالفوضى، التي أحاطت بوصول المساعدات وتوزيعها، حيث لم تكن لها مرجعية واحدة، بل إنها كانت متعددة المرجعيات في كل منطقة، قللت من فرص وصول المساعدات إلى أصحابها، وفتحت الأبواب نحو فساد ممكن في غياب الرقابة وتداخل شبكات الوصول.
ورغم الملاحظات، فلا بد من قول إن عجز المساعدات في تلبية الحاجة السورية، لا يقلل من مساهمتها في تخفيف الكارثة عن الضحايا، وإنها تأكيد على نهج المساعدة الإنسانية الذي يتبناه العالم رغم الضغوط والأزمات التي تجتاحه، والتي تدفع إلى تسييس المساعدات حسبما ظهر في سوريا، التي ينبغي أن تكون خارج التسييس لأنها إنسانية بالأصل.
المصدر: الشرق الأوسط