ليس من مصلحة العالم هزيمة موسكو

زياد بركات

ليس مسموحاً لروسيا أن تنتصر، وليس من مصلحة العالم، في الوقت نفسه، أن تُهزم. قد تكون هذه خلاصة مكثفة للعام الأول من الحرب الأوكرانية: بوتين في المستنقع يقاوم عملية متدرّجة لتحويل بلاده إلى مجرّد قوة إقليمية وإخراجها من نادي القوى الكبرى، وسبيله الأخير لفعل ذلك ترسانة الاتحاد السوفييتي النووية، ما يعني عملياً بناء استراتيجيات غربية لاستنزاف روسيا بشكل متواصل، لكن بشرط عدم دفعها إلى الخيار النووي، وهو ما يفسّر أمرين: تزويد أوكرانيا بمزيد من الدبابات، والامتناع عن تزويدها بالمقاتلات المتطوّرة والصواريخ بعيدة المدى، أي حصر نطاق الحرب وأدواتها بما يستنزف موسكو التي يعاني جيشها ميدانياً إلى درجة الاستعانة بقوات فاغنر.

إنها استراتيجيات تتواءم فعلياً مع المعادلة التي يتبنّاها بوتين، وكرّرها في خطابه يوم الثلاثاء الماضي، وتقوم على أن نطاق الحرب مرتبط بمدى تزويد الغرب أوكرانيا بالأسلحة، فإذا زُوّدت بمزيدٍ منها والأكثر تدميراً، فإن نطاق الحرب سيتسع وتزداد شدّتها، ما يؤكّد أن الرئيس الروسي يعرف تماماً أن إطالة أمد الحرب هدف رئيسي للغرب، ومع الحال هذه، عليه حسمها قريباً إذا استطاع. وواضحٌ أن ذلك متعذّر عسكرياً، أو يحتاج وقتاً طويلاً على الأقل، ما يجعل خيار الضربات النووية التكتيكية على طاولة البحث في الكرملين أو الحل السياسي. والأخير يعني لموسكو تسليم أوكرانيا والغرب من ورائها بأن القرم خط أحمر، وكذلك دونيتسك ولوغانسك (شرقيّ أوكرانيا)، وربما بدرجة أقل خيرسون وزابوريجيا (جنوب).

مشكلة خيار طاولة المفاوضات أنه لا يمكن أن يصبح واقعياً ما لم تتكبد قوات أحد البلدين هزيمةً قاسيةً، تدفعه إلى التفاوض لتجنب إعلان الهزيمة. ويبدو أن موسكو تسعى لذلك، فهناك استعداد روسي لهجومٍ يفترض أن يكون كبيراً وقاسياً يدفع الطرف الآخر إلى طاولة المفاوضات بشروط موسكو، فليس من مصلحة الروس، في أي حال، إطالة أمد الحرب، بل حسمها في أسرع وقت وبأقل الخسائر.

والإشارات إلى استعداد موسكو للتفاوض كثيرة، أهمها تكرار إعلان استحالة هزيمتها عسكرياً، وهو ما قاله بوتين في خطابه أخيراً، وإن هزيمة قوة نووية في حرب تقليدية تعني حرباً نووية، وهو ما سبق أن تحدّث عنه بتعبيرات خشنة الرجل الثاني في روسيا، ديمتري ميدفيديف، أي التصعيد والتلويح بالخيار النووي لدفع الطرف الآخر، وهو الغرب بالمناسبة وليس أوكرانيا، إلى التسليم بالوقائع على الأرض، كثيرها وليس كلها، وإغلاق الصفحة. على أن هذا يفترض أن الغرب مع إنهاء الحرب، وهو ليس طرفاً فيها. وفي الحقيقة، هناك غربان، لا واحد، في مقاربة الحرب الأوكرانية. فواشنطن ولندن مع توريط موسكو في حربٍ تمتد إلى سنوات، وتنتهي بهزيمةٍ غير معلنة لروسيا بإخراجها من نادي القوى الكبرى دبّاً جريحاً يتفرّغ لتضميد جروحه، بينما ترى برلين وباريس أن المطلوب عدم انتصار موسكو، من دون أن يعني هذا هزيمتها. ومن المفيد هنا ربما استعادة تصريحاتٍ أدلى بها الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) مفوض الشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي حرص على النأي بالاتحاد عن الحرب، فهو ليس طرفاً في الصراع، ولا يريد ذلك. يقول بوريل إن من السخف الاعتقاد أن روسيا خسرت الحرب أو أن جيشها غير كفء، فتاريخها يؤكّد قدرتها على النهوض والانتصار، فحالما تصبح على حافّة الهزيمة، فإنها لا تلبث أن تعيد بناء كل شيء. فعلت ذلك مع نابليون، ومن بعده هتلر.

هذا بالتحديد ما تريد واشنطن إثبات خطئه، فعالم الحروب القديمة ومعادلاتها انتهى، وعلى روسيا أن تُهزَم، وأن يتخلى زعماؤها عن أوهامهم الإمبراطورية مرّة واحدة وإلى الأبد.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى