بعد اجتياح روسيا لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، تقاطر عدد من دول العالم الديموقراطية لإدانة العدوان الروسي والتداعي للدفاع عن أوكرانيا. لم تفعل الهند ذلك. وكذلك امتنعت عن التصويت في مناسبات مهمة وأساسية في الأمم المتحدة، رافضة إدانة شريكتها القديمة (روسيا). جاءت ردود الفعل على تلك المواقف عنيفة وصادمة. فقد عبرت حكومات كثيرة عن إحباطها من الهند بسبب تمنعها عن إدانة أمر يتعذر تبريره. ورأى بعض المراقبين في المقابل أن الهند ربما تبدل وجهتها. إذ لاحظ المراقبون أنها، في نهاية الأمر، قد تفكر في الابتعاد عن روسيا وفك ارتباطها بها. وفي سبتمبر (أيلول) نقل رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن “الزمن اليوم ليس زمن حروب”. وبدت تلك الملاحظة بمثابة تأنيب لبوتين، وقد وصفها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بالـ”مهمة”. وكتب المفكر السياسي هابيمون جاكوب في الـ”فورين أفيرز” شرحاً عن كيفية شروع نيودلهي “بالانسحاب من شراكتها القديمة مع روسيا”، مشيراً إلى نيتها التأقلم على نحو أوثق مع تقاربها من الولايات المتحدة. ووفق هذه القراءة للحوادث، تعمل الهند على إدارة ظهرها لروسيا، مع إبدائها ميلاً إلى زيادة التقرب من الولايات المتحدة، مستنتجة أنها تحتاج إلى علاقات أوثق مع الغرب.
تبقى لكن تلك التوقعات، أو بعضها على الأقل، آمالاً أكثر من كونها احتمالات حقيقية. لذا، يتوجب على صناع السياسة الأميركيين التخطيط لما يتعلق باستمرار العلاقات الهندية – الروسية التي امتدحها وزير الخارجية الهندي س. جايشانكار خلال زيارته لموسكو في نوفمبر (كانون الثاني) الماضي، معتبراً أنها (علاقات) “قوية وثابتة”. في المقابل، يتوجب على الهند أن تنوع في شراكاتها بعيداً من روسيا، وذلك نظراً لعدم احترام الأخيرة سيادة أراض وطنية (في أوكرانيا)، واعتمادها المتزايد على الصين، والأسلحة غير الموثوقة التي تتنتجها وتزود الهند بها. وعلى رغم سوء التصرف الروسي هذا، تبقى الهند غير جاهزة بعد للتخلي عن شراكتها المهمة مع روسيا. بالتالي، يجب على صناع السياسة الأميركيين مساعدة الهند في الانتباه إلى أن (علاقتها) بروسيا تشكل مسؤولية. وكذلك ينبغي بهم أيضاً ألا يعاقبوا نيودلهي جراء استمرار علاقاتها بموسكو، بقدر ما يقدرون على الاستمرار في الاتكال على الهند بغية النهوض بدور أكبر وأنشط في مواجهة العدائية الصينية ضمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
فجر كاذب
لقد تكهن محللون بأن الهند تحاول إبعاد نفسها عن روسيا استناداً إلى أدلة تألفت من كلام ومواقف معلنة من مسؤولين هنود. وقد أشار أولئك المحللون إلى مواجهة مودي الكلامية مع بوتين في سبتمبر (أيلول) الماضي، ووقائع تصويتها في الأمم المتحدة لغير مصلحة روسيا، وكذلك إلغاء الهند صفقات شراء أسلحة روسية بمليارات الدولارات، من بينها طائرات حربية وطوافات عسكرية. لكن، في الحقيقة، فإن هذه التطورات بغض النظر عن أهميتها، لا تدل على وجود حركة افتراق نهائي عن موسكو تنهض بها نيودلهي. لقد قدمت “واشنطن بوست” كلام مودي الذي وجهه إلى بوتين في سبتمبر (أيلول) كأنه “توبيخ” (أو تأنيب). بيد أن كلام مودي في الواقع لم يبلغ ذاك المستوى، وجاء ليعبر أكثر عن القلق المتنامي إزاء ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة. وجاءت مراجعات تقييمية هندية عدة كي تحذر من المبالغة في تأويل كلام مودي، ولتشير إلى تماشي كلامه ذاك مع مواقف هندية سابقة تنتقد الكلفة الباهظة التي تفرضها الحرب على دول الجنوب في العالم. وقد وقفت الهند مع الغرب في بعض مناسبات التصويت الإجرائية (في الأمم المتحدة)، كتلك التي حصلت في سبتمبر (أيلول)، بغية تمكين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من إلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. في المقابل، عادت الهند إلى موقف الامتناع عن التصويت في مناسبة أشد أهمية في أكتوبر (تشرين الأول) تتعلق بعملية الضم الروسية غير الشرعية لأربعة أقاليم أوكرانية.
في سياق متصل، تصح الإشارة إلى أن الهند أيضاً ألغت في العام الماضي عدداً من صفقات متفق عليها لشراء أسلحة روسية، تضم طائرات حربية من طراز “ميغ 29”. بيد أن قرار الإلغاء ذاك لم يتعلق بروسيا بقدر اتصاله بمحاولة زيادة وتعزيز إنتاج الأسلحة محلياً. وقد خططت الحكومة الهندية سلفاً لإلغاء صفقات (من بينها شراء طائرة “بوينغ ب– 81″ من الولايات المتحدة) قبل أشهر من الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وذلك كي تنتقل إلى الاعتماد على تجهيزات محلية الصنع تماشياً مع مبادرة أطلقتها تعرف بـ”الهند المعتمدة على نفسها”. وكذا لم تلغ الهند عقود شراء أسلحة روسية أساسية أخرى، على غرار منظومة “أس 400” في الدفاعات الجوية، وفرقاطات شبحية (خفية)، وغواصات نووية، الأمر الذي سيبقي نيودلهي مرتبطة بموسكو لعقود عدة. لا يمكن للهند في الحقيقة إنهاء علاقتها بروسيا. إذ تؤدي الأخيرة دوراً بالغ الأهمية في الحسابات الجيوسياسية الهندية، وكذلك فإنها تقدم دعماً كبيراً للترسانة العسكرية الهندية، وتحظى بشعبية واسعة في أوساط نخب الهند السياسية.
قوة البقاء
منذ زمن، تنظر الهند إلى روسيا باعتبارها شريكاً لا غنى عنه في استراتيجيتها المسماة “عدم الانحياز”، التي ترفض الهند من خلالها تشكيل تحالفات خالصة مع أية قوة عظمى، بغية الحفاظ على شراكات استراتيجية مثمرة مع عدد من تلك القوى الدولية. ويرى القادة الهنود أن تلك الاستراتيجية ما زالت سليمة، لأن المحللين الغربيين أساؤوا تقدير روسيا في نواح مهمة عدة. وقد توصلت في البحث الذي أجريته إلى أن مسؤولي الأمن القومي الهنود يؤمنون بدوام قوة روسيا، على رغم قوة العقوبات الغربية ضدها. بالتالي، إنهم يتوقعون أن ترزح أوروبا تحت ضغوط التضخم ونقص إمدادات الطاقة، وأن تنتعش روسيا في المقابل بفضل ارتفاع أسعار المواد. ففي نهاية المطاف، تستثمر الشركات الهندية في مشاريع الطاقة الروسية كمشروع استخراج النفط والغاز في “ساخالين”، في أقصى الشرق الروسي. وكذلك تضاعف هذه الشركات مساهماتها في بحوث مستقبلية مشتركة (مع روسيا)، وعمليات تطوير بعض التكنولوجيات الدفاعية، بينها صواريخ كروز الاستراتيجية من طراز “براهموس” BrahMos. كذلك يرجح القادة الهنود تحول الحرب في أوكرانيا إلى مأزق عسكري ينتهي، عبر المفاوضات، بوقف إطلاق نار، على أن يلي الأخير اتفاق مستقبلي سيسمح لروسيا بالانخراط مجدداً في المجتمع الدولي.
وتبدو نيودلهي، بناء على ما تقدم، مقتنعة بأن الكرملين سيبقى قوة جيوسياسية بارزة يمكنها مساعدة الهند. إذ يمكن لروسيا أن تبقى قادرة على توفير الدعم الدبلوماسي للهند في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، وتمارس تأثيراً كبيراً في جوار الهند القاري الواسع. وفي هذا الإطار، ما زالت الهند تعتمد على روسيا للحصول على تكنولوجيا الصواريخ، والمفاعلات النووية المستخدمة في الغواصات، والأسلحة الفرط صوتية (التي تفوق سرعتها سرعة الصوت). يضاف إلى ذلك أن المسؤولين الهنود يتوقعون أن يبقوا قادرين على استخلاص مزيد من الدعم من روسيا فيما الكرملين يتداعى. ويتشابه ذلك تماماً مع ما فعلته الهند بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حينما أطلق البلدان (الاتحاد السوفياتي والهند) مشروع “براهموس الفضائي” BrahMos Aerospace المشترك. ولا يتخوف المسؤولون الهنود من حدوث تداعيات كبيرة بأثر من هذا التوجه. فقد رفضت الدول الغربية معاقبة الهند على قرارها الهادف إلى الإبقاء على استمرارية روابطها بشريكتها القديمة (روسيا).
وقد رأى بعض المراقبين أن الهند ستفترق عن روسيا لأن الأخيرة تغدو أكثر اقتراباً من الصين، أو حتى معتمدة عليها. لكن، لا يعتقد المسؤولون الهنود، على عكس نظرائهم الغربيين، بأن العقوبات القاسية ستجبر روسيا على الارتماء في أحضان الصين. إذ يرون أن التوترات مستمرة في العلاقة الصينية – الروسية، وآخرها التوتر المتعلق بالوضع في وسط آسيا ومنطقة القطب الشمالي. ويمكن للهند، بحسب وجهة نظر مخططيها الاستراتيجيين، أن تكون عازلاً بين روسيا والصين، الأمر الذي يسمح لروسيا في الحفاظ على بعض الاستقلالية في سياستها الخارجية، فلا تستسلم كلياً لدور بكين وتغدو “شريكها الصغير”.
حال تخبط
يعتمد الجيش الهندي على روسيا في معظم قدراته العسكرية والهجومية. وقد تسبب اجتياح أوكرانيا بصدمة إمدادات في إطار خدمة الترسانة الهندية المؤلفة بمعظمها من أسلحة روسية، مع تقلص أو تباطؤ إمدادات قطع الغيار والتحديثات. بيد أن الهند على رغم ذلك، لم تفرض أي تدابير جذرية لتسريع عملية التنويع التدريجية في مصادر تجهيزاتها العسكرية من خلال تقليص استخدامها للمعدات الروسية وخلق بدائل شرائية. وعلى رغم استمرار قلق الهند من الأداء الضعيف لبعض منصات الأسلحة الروسية، وأيضاً من تباطؤ إمدادات قطع الغيار، إلا إنها لا تملك خططاً سريعة لإعادة النظر بأنظمة أسلحتها الروسية والتوجه إلى أطراف أجنبية بديلة تؤمن لها إمدادات الأسلحة. ومع حال الاستقرار النسبي التي تشهدها الحدود الهندية إثر الأزمة الحدودية في 2019 و2020، يستطيع الاستراتيجيون الهنود في السنوات القليلة المقبلة معايشة حال تأهب تعبوي منخفضة، حتى لو عنى ذلك تحمل بعض الضعف والهشاشة. إذ إن الهند تخطط، على المديين القريب والمتوسط، للتأقلم مع حال تخبط في مخزونها (العسكري) الحالي، فتستند إلى سوق قطع الغيار الروسي الرديف، وكذلك تتوجه إلى الحصول على تجهيزات من قطاع الصناعة العسكرية المحلي (الهندي). وستتعاون الهند مع روسيا في تنفيذ الالتزام بطلبيات (أسلحة وقطع غيار وتحديثات) مستحقة، وعقود شراء محددة مع شركات أسلحة دفاعية غربية تعزز الصناعة الدفاعية المحلية الهندية. وعلى المدى البعيد، تنوي الهند أن تغدو بدرجة كبيرة معتمدة على نفسها في حاجاتها الدفاعية، فتكف عن الاعتماد على الإمدادات من مصادر خارجية. لكن حتى مع نيتها تنويع مصادر ترسانتها العسكرية وتحقيق الاكتفاء الذاتي خلال السنوات الـ20 المقبلة، ستبقى الهند بحاجة إلى روسيا في عدد من التكنولوجيات الحساسة والمهمة. وسيظل ما تملكه من طائرات “سوخوي- 30” العمود الفقري لقواها الجوية لعقود عدة، وستتعذر عمليات صيانة هذه الطائرات وتحديثها من دون مساهمات روسية جوهرية. كذلك فإن أهم صادرات الهند الدفاعية، أي صواريخ كروس “براهموس” المضادة للسفن التي تسوق راهناً في بلدان جنوب شرق آسيا لردع الصين، تستخدم تكنولوجيا تسيير روسية. بالتالي، من المستطاع استخلاص أنه طالما بقي الكرملين متحكماً بعناصر أساسية في أنظمة الأسلحة المتطورة الهندية، خصوصاً ما تملكه الهند من طائرات حربية وصواريخ كروز وغواصات، فسيبقى متمتعاً بتأثير كبير في نيودلهي.
الصديق الأول للهند
خلف تلك المسائل المادية (المرتبطة بالسلاح)، ثمة مواقف أيديولوجية مشتركة تبقي الهند بعلاقة صداقة وطيدة مع روسيا. إذ يتبنى المسؤولون الهنود والروس رؤية عن نظام عالمي “متعدد الأقطاب”، حيث لا تسود سيطرة طرف واحد مهيمن، وتحافظ القوى الكبرى (المتعددة) على نطاقات تأثيرها. وتؤمن كل من نيودلهي وموسكو بأن هكذا بنية للنظام العالمي تبقى أكثر استقراراً وثباتاً من بنية يتحكم بها قوة عظمى واحدة أو قوتين عظمتين.
كذلك تحتفظ النخبة السياسية الهندية بعلاقة مع روسيا متجذرة في سنوات طويلة وعقود عدة من التعاون مع الاتحاد السوفياتي. وبعد شهرين من الاجتياح الروسي لأوكرانيا، رأى الباحث الهندي في السياسة الخارجية، يوغا جيوتسنا، “أن روسيا تبقى الصديق رقم واحد للهند، بحسب رأي أعضاء في القوات المسلحة (الهندية) ومحللين بصيرين”. كذلك اعتبر مدير أحد مراكز البحوث الهندية الرئيسة، راجيسواري راجاغوبالان، أن “التعاطف الاستراتيجي مع السوفيات وروسيا ما زال مستمراً، في أوساط الطبقة السياسية وكذلك لدى الرأي العام الواسع”، بسبب الطابع الرومنطيقي الذي يسم دعم روسيا للهند. ولا توافق السياسة الخارجية الهندية الرسمية على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، بيد أن المسؤولين المخضرمين الذين يقدمون مشورتهم للحكومة في مسائل الأمن القومي يعتبرون أن أطرافاً عدة، من بينها الناتو، تتحمل مسؤولية الأزمة الراهنة، ولا يضعون كل اللوم على روسيا.
وكذلك يتعاطف الرأي العام الهندي أيضاً مع روسيا. إذ إن غالبية الهنود الذين شملهم استطلاع رأي في يوليو (تموز) الماضي، رفضوا اعتبار اجتياح روسيا لأوكرانيا خطأ. كذلك بين استطلاع آخر أجري في سبتمبر (أيلول) 2022 وشمل أكثر من ألف راشد هندي، أن الهنود يحملون الغرب وروسيا على حد سواء مسؤولية اجتياح أوكرانيا، بالتالي، لم يعتبر معظم من استطلعت آراءهم أن انتصار روسيا في الحرب سيجعل العالم أكثر خطورة. ولا تختلف مواقف الرأي العام في الهند على نحو حاد مع الرأي العام في الدول الأوروبية وأستراليا واليابان، وكذلك الحال أيضاً بالنسبة إلى الرأي العام في دول تشكل اليوم أسواقاً ناشئة كالبرازيل وجنوب أفريقيا.
واقع غير مريح
وفق ما رأى هابيمون جاكوب ومحللون آخرون، فإن العلاقة الهندية – الروسية، تسلك اتجاه هبوط على المدى البعيد. إلا أن التحول والافتراق بين البلدين سيكونان بطيئين. إذ لن يحدث افتراق الهند تدريجاً عن روسيا إلا في إطار زمني ممتد، ربما على مدى عقود، ولا يمنح ذلك المدى صناع السياسة الأميركيين سوى فرصة ضئيلة لهندسة القرارات المتعلقة بروسيا على المدى القريب. (الاستثناء في ذلك الملمح قد يتمثل بأي استخدام لأسلحة نووية من قبل روسيا يمكنه أن يشكل صدمة في حسابات نيودلهي، وذلك على رغم اعتبار الدبلوماسيين الهنود أن احتمالات التصعيد تبقى احتمالات “ضئيلة”).
وعلى رغم علاقات الهند الوثيقة بروسيا، إلا إن شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة تبقى في غاية المنطق. إذ تعرف الهند أن الولايات المتحدة تمثل الشريك الأهم لتطوراتها الذاتية الاقتصادية والتكنولوجية. ولا يزال بإمكان واشنطن أن تكسب كثيراً بأثر من التعاون الناشط مع نيودلهي. لقد راهن صناع السياسة الغربيون بشكل كبير على الهند باعتبارها الدولة “المتأرجحة” (في العلاقة ما بين الغرب وروسيا) الأكثر أهمية في النظام الدولي، وذلك بغية تحقيق التوازن إزاء الصعود الصيني ومناصرة نظام (دولي) مستند إلى القواعد والقانون. بيد أن الهند تبقى أكثر انشغالاً في التركيز على توازن القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وإذا استطاع صناع السياسة الأميركيون الاستمرار في الاعتماد على الهند في تحقيق توازن حقيقي وواضح أمام الصين وفي محيطها، فسيكون أسهل على الولايات المتحدة القبول بأثمان شراكة الهند المستمرة مع روسيا المتراجعة.
* سمير للواني، خبير رفيع في “المركز الآسيوي” ضمن “المعهد الأميركي للسلام” وباحث رفيع غير مقيم في “مركز الدراسات الاستراتيجية والتقييمات المالية”.
رد هابيمون جاكوب
أخشى القول إن سمير للواني يقلل من شأن التحول الجذري الجاري الآن. في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ذهبت في زيارة إلى روسيا لمدة أسبوع. وعدت إلى نيودلهي بقناعة راسخة ترى إنه في ما قد يكون بين روسيا والهند بعض نقاط الخلاف المتبادلة وهما لا تزالان مولعتان ببعضهما بعضاً، إلا أن هناك عوامل بنيوية وتعقيدات جيوسياسية تعمل بالفعل على إضعاف قوة علاقتهما. حتى أن بعض المحللين الروس يرون أن هذه العوامل الخارجة عن سيطرة الحكومتين (الهندية والروسية)، قد تؤدي إلى تعقيد العلاقات بينهما على نحو أكبر.
يضاف إلى ذلك إن أكثر ما لفت نظري في جميع التعليقات التي سمعتها في الهند على مقالتي الأولى في “فورين بوليسي” بتاريخ سبتمبر (أيلول) الماضي، تمثل بشبه الإجماع المتعلق بمخاوف من أن تشجع الصين لصناع السياسة الهنود على الافتراق عن روسيا، والحرب في أوكرانيا لا تسهم إلا في تسريع هذا المنحى. لم تعد مستمرة تلك الشراكة الوطيدة التي عمرها عقود بين الهند وروسيا، بل حل بدلاً منها علاقة تبادلية (عادية أو سطحية) يرجح أن تزداد برودة في السنوات المقبلة.
أعباء غير متوقعة
طرحت الحرب في أوكرانيا أمام الهند، ربما للمرة الأولى في السنوات الماضية، مسألة الاضطرار إلى اختيار غير مريح بين روسيا من جهة، وبين شركائها في أميركا والغرب من جهة أخرى. ويضع هذا الخيار عبئاً غير متوقع على كاهل الدبلوماسية الهندية وسياسة العلاقات المتعددة (المرتكزة على مبدأ عدم الانحياز) التي تنتهجها البلاد. والحقيقة فإن موقف نيودلهي المتضارب في مطلع الحرب، قد أكسبها اهتماماً كبيراً تجسد بزيارات مسؤولين غربيين وروس رفيعي المستوى إلى نيودلهي. إلا أن الاهتمام والتركيز الدبلوماسي لن يبقى منصباً على الهند لفترة طويلة، والآثار العامة للحرب (في أوكرانيا) المنعكسة عليها (على الهند) قد تكون سلبية وعميقة. فمن ناحية أولى، ستقل قدرة نيودلهي على المناورة في عالم منقسم بين معسكرين متعارضين. ومن ناحية ثانية، إن انعكاسات الحرب على أسعار السلع العالمية تعمل فعلياً على إنزال الأضرار في الاقتصاد الهندي. ولا يغيب هذا الواقع المرير عن بال صناع السياسة الهنود. نعم، تستمر نيودلهي اليوم في شراء النفط الروسي الرخيص، وقد ابتكرت أساليب للتجارة مع موسكو تلتف بها على العقوبات الغربية. بيد أن ذلك يشكل انتهازية في السياسة الخارجية ولدت من وطأة الضرورة. وستتابع الهند المحافظة على علاقاتها التبادلية مع روسيا وستستمر في التجارة معها. لكنها أيضاً ستستمر في الافتراق عن روسيا تماشياً مع استراتيجيتها الكبرى المتمثلة في الاقتراب أكثر من الغرب بغية تحقيق التوازن أمام الصين.
وبعيداً من التجارة المتصلة بالمسائل الدفاعية، لا تتسم العلاقة المتبادلة بين البلدين بثقل كبير. ووفق ما ذكره السفير الهندي لدى روسيا، بافان كابور، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فإن التجارة المتبادلة هذه “غدت إلى درجة كبيرة علاقة من طرف واحد”، إذ تسير لمصلحة روسيا، بالتالي فإنها “غير قابلة للاستدامة” (أي لا يمكن استمرارها، حيث إن الصادرات الروسية تشكل قرابة ثلثي التبادلات التجارية بين البلدين). ولا تستطيع العلاقات السياسية المفتقرة إلى أسس اقتصادية متينة، أن تتجاوز هذه الحدود.
التوجه جنوباً
ثمة عوامل أكبر من التبادلات التجارية المذكورة تشير إلى المسار التنازلي في العلاقة بين البلدين. إذ تشكل الصين بالنسبة إلى الهند أول المخاوف. وتعمل بكين على زرع الشقاق بين موسكو ونيودلهي. وكلما اقتربت الصين من روسيا، سعت الهند وراء شركاء استراتيجيين آخرين. وبالتأكيد، يعمل مسار الحرب في أوكرانيا على رسم مستقبل العلاقات الهندية – الروسية. وقد تقود هزيمة روسيا موسكو إلى الاعتماد أكثر على بكين، وكذلك ستقود نيودلهي إلى مزيد من القطيعة مع موسكو. في المقابل، إن انتهت الحرب في أوكرانيا عما قريب بنتيجة مقبولة لكل من الكرملين والغرب، لن يكون على روسيا الاعتماد كثيراً على الصين وسيكون في مقدورها مبدئياً معاودة الدخول في التيار الدولي السائد. في ظل مثل تلك الظروف، ستنظر نيودلهي إلى موسكو باعتبارها محوراً مهماً لاستراتيجياتها الجيوسياسية في القارة الآسيوية، فتسعى إلى الحفاظ على علاقات متينة معها. في المقابل، إن استمرت الحرب في أوكرانيا وطال أمدها وتتابعت الخسائر الروسية، فستتدهور علاقة نيودلهي بموسكو. وستجد الهند ستجد نفسها مضطرة إلى العثور على شركاء أكثر موثوقية يحلون في مكان شريك مستنفد ومتهالك. يبدو هذا السيناريو في الوقت الراهن الأكثر ترجيحاً، والتفكير به قاد الهند إلى المبادرة لإطلاق عملية افتراق تدريجية عن موسكو. وثمة عامل آخر سيحدد علاقة الهند بروسيا يتمثل بمدى موثوقية إمدادات الأسلحة الروسية. لأن الهند، من ناحية، ستقلص اعتمادها على روسيا في هذا الجانب تزامناً مع تهيئتها مصادر أخرى تحصل منها على تجهيزات دفاعية متطورة. وبفعل الحرب في أوكرانيا والعقوبات التي حظرت تصدير أشباه الموصلات (semiconductors) إلى روسيا، غدت موسكو عاجزة عن تأمين أنظمة أسلحة معينة للهند. ولسوف يثبط ذلك التقصير حماسة نيودلهي تجاه الأسلحة الروسية. وقد باتت روسيا اليوم متأخرة بالفعل عن إرسال شحنة إمدادات موعودة إلى الهند تتضمن أنظمة الدفاع الجوي “أس 400” وفرقاطات شبحية من طراز “تالوار”. كذلك هناك عامل آخر ينبغي أخذه في الاعتبار يتمثل بواقع أن روسيا المحرومة تماماً من أشباه الموصلات [بفعل العقوبات الغربية عليها] باتت تعتمد كلياً على الشرائح الإلكترونية الصينية في أنظمة أسلحتها. لذا، من المنصف هنا الافتراض أن الهند ستكون شديدة الحذر من استيراد أسلحة تشتغل بواسطة رقاقات إلكترونية صينية.
آخر الطريق
يكتب للواني، “طالما بقي الكرملين متحكماً بعناصر مهمة في أنظمة الأسلحة المتطورة الهندية”، فسيبقى “متمتعاً بنفوذ كبير في نيودلهي”. لكن هذا لا ينطبق على الواقع. إن اعتماد الهند الراهن على الأسلحة الروسية لا يقلص من حريتها في اتخاذ قرارات استراتيجية مستقلة.
في السنوات الماضية، قلصت نيودلهي على نحو حاد اعتمادها على الأسلحة الروسية من دون استثارة أي ردات فعل سلبية من موسكو. واليوم مع استعار الحرب وتقلص الأسواق الخارجية الأخرى، لا يريد الكرملين من الهند سوى إيرادات تمس حاجته إليها، من دون أن يطمح في التأثير في الموقف الهندي الاستراتيجي. بكلام آخر، يمكن القول إن حاجة روسيا لأموال الهند توازي (أو ربما تتخطى) حاجة الهند إلى أسلحة روسيا.
ويشير للواني إلى “إطراء” وزير الخارجية الهندي س. جايشانكار على علاقات الهند “القوية والثابتة” بروسيا خلال زيارته إلى موسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. لكن دعونا هنا ندقق في هذه الزيارة. فإزاء الحرص الذي أظهرته موسكو للحديث عن “تعددية الأقطاب” والروابط “الخاصة” و”المميزة” (بينها وبين الهند)، اعتمد جايشانكار كلاماً أكثر براغماتية، مشدداً على التعاون الاقتصادي، وداعياً إلى روابط “أكثر توازناً” وقابلة “للاستدامة” (أي للاستمرار والتطور)، طارحاً مسألة الخلل في التبادلات التجارية و”العوائق” الموجودة في الجانب الروسي. كذلك ذكر جايشانكار أن العالم اليوم شديد الترابط، فلا يمكن لأي نزاع في منطقة ما إلا أن ينتج “عواقب أساسية في مناطق أخرى”. ومن الملفت أن لا أحد من الطرفين تحدث عن أي تعاون عسكري مستقبلي.
لنأخذ أيضاً التصريح الأحدث لجايشانكار في فيينا أثناء وقت سابق من هذا الشهر. وقد جاء فيه أن “لا أحد في الحقيقة يحتاج إلى هذه الحرب. لسنا بحاجة إلى الحروب أبداً”. ثمة رسالة واضحة من نيودلهي. إنها لا توافق على أفعال روسيا في أوكرانيا، وقد أوضحت بطرق عدة أنها لا توافق على الاجتياح (الروسي لأوكرانيا).
واليوم، غدت الشراكة الهندية – الروسية القديمة علاقات تبادلية يكتنفها الغموض واللايقين. أجل، قد تستمر العلاقة على هذا النحو لبعض الوقت ربما، لكن إذا فشلت روسيا في تأمين وعودها (بأنظمة الأسلحة) الدفاعية للهند، وتزايد قلق المسؤولين الهنود تجاه علاقات وروابط روسيا بالصين، لا تتوقعوا من نيودلهي إلا مزيداً من الافتراق عن موسكو.
** هابيمون جاكوب أستاذ مشارك لمادة الدبلوماسية ونزع الأسلحة في “جامعة جواهر لال نهرو” ومؤسس “مجلس البحوث الاستراتيجية والدفاعية” الذي يمثل مركز بحوث في نيودلهي.
المصدر:فورين أفيرز / اندبندنت عربية