سافر إلى العراق وهو في الثمانين من عمره للالتحاق بفصل دراسي عن اللاعنف، رغبة منه في دراسة موضوعه الأثير دراسة أكاديمية، وفي عقد الستينات من القرن المنصرم عاش في مصر وقابل هناك فيلسوفا عربيا كبيرا هو مالك بن نبي، سيكون له أثر بالغ في يقظة جودت سعيد الشاب، الفكرية..
تأثر الشيخ جودت بالمفكر والشاعر الهندي- الباكستاني محمد إقبال، وبسبب مواقفه المبدئية اعتقل في سوريا وسجن، وفي السجن بدأت بذور كتابه الأول “مذهب ابن آدم الأول”.
الإنسان هو اللاعنف
في كتابه الأول يبسط الشيخ جودت سعيد نظريته عن نبذ العنف منطلقا من قصة الأخوين قابيل وهابيل، متخذا موقف هابيل الذي يرفض أذية أخيه، رغم أن أخيه همّ بقتله.. يقول الشيخ سعيد في ذلك مقولة ندر مثيلها في تاريخ الأفكار في الإسلام والأديان الإبراهيمية، يقول: “إن التاريخ بدأ بموقف لاعنفي وليس بجريمة قتل، وأن هابيل خاطر بنفسه لكي لا يكون قاتلاً بما يظهر المسؤولية الأخلاقية التي ينبغي على الإنسان أن يتجشّمها من خلال رفضه أي تواطؤ مع الشر”. وهو من ثم يقول في اللاعنف ما يعتبر قولا فلسفيا، معرّفا الإنسان باللاعنف وملصقا اللاعنف بالإنسان. يقول: “الإنسان هو اللاعنف وإلهه العدل والإحسان”.
جذور السلمية في تراثنا
منذ كتابه الأول ذاك، عرف جودت سعيد داعية سلام وحوار، ينبذ العنف، وصاحب مذهب في الجهاد المدني إذا صح التعبير، إذ راح مفكرنا الشاب يتحرى جذور السلمية في تراثنا العربي الإسلامي، فوجدها في سيرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، يقول في ذلك “إن سيرة الرسول هي أطول سيرة لا عنفية” ولذلك فقد وقف موقفا صلبا من الفكرة التقليدية للجهاد، لا سيما تلك التي شاعت بعد انتشار كتب سيد قطب.. ففي رأي الشيخ سعيد إن الإنسان المسلم يجب أن يرتقي إلى مستوى الروح، فلا يجوز القتل لأجل الأفكار، في الإسلام، وإنما المطلوب هو الحوار والمطالبة السلمية دون عنف..
نقد سلبيات الغرب ومدح إيجابياته
وانطلاقا من رؤيته الإنسانية السلمية فهو لطالما انتقد النظام العالمي القائم على الاستعمار والاستغلال والحروب، كما انتقد مجلس الأمن الذي أسس على حق النقض الفيتو.
ومع ذلك فالشيخ سعيد يرى، في الوقت ذاته الجانب المشرق من الغرب، فيكيل له المديح، يقول “إن الحضارة الغربية ليست تقدما تقنيا فقط، فالغرب أقام العدالة، وأعظم شيء نزل من السماء هي العدالة”.
وردا على من يتهمه بمحاباة الغرب يقول “لا تهمني سيئات الغرب بل الإيجابيات التي مكنهم الله بها من السيطرة على العالم”.
فيلسوف السنن الكونية
وبسبب اطلاعه على العلوم الحديثة ودراسته للقرآن الكريم بعقل منفتح وقلب سليم اكتشف مبدأ السنن الكونية، يقول فيلسوفنا الملهم: “القرآن هو كتاب الله المسطور؛ والكون هو كتاب الله المنشور”.
ويشرح ذلك في بضع كلمات جريئة وملهمة قلما وجدناها عند مفكرين مسلمين معاصرين:
“إن كلمات الله الباقية هي السنن التي يتعرف إليها الإنسان كل يوم عبر البحث العلمي والحقائق الفيزيائية المكتشفة، وهي سنن كونية تملك قوة الوحي؛ وهي كلمات الله المستمرة في كونه”.
يقول خالص الجلبي في ذلك مؤكدا على أهمية فكرة السنن الكونية: “في كتاب (عندما تغيّر العالم) للكاتب (جيمس بيرك) ترجمة ليلى جبالي (وجدير بالذكر أن مدينة بادوا كانت المكان الذي هرب إليه معظم مؤيدي الفيلسوف العربي (ابن رشد) في القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر لمواصلة تعليم فلسفته في البحث التجريبي لدراسة الكون الذي يشبه في نظرهم آلة تسير وفقاً لقوانين عقلانية).
ومن بادوا انطلق تيار عقلي تحرري، بدأ ينتبه إلى فكرة (السنن) في إدراك الوجود، و(البحث التجريبي) الذي يقوم على طريقة جديدة في فهم الوجود هي الطريقة (الاستقرائية) بدلاً عن الطريقة الأرسطية القديمة، التي تقوم على الطريقة (الاستنباطية)”.
يذهب شيخنا مذهبا يوافق كشوف علم الفلك والفيزياء التي تخيرنا أن الكون لا يتوقف عن التمدد وأن بعض النجوم تفنى في وقت تولد فيه نجوم جديدة، يقول شيخنا سعيد في لقاء معه “الكون لم ينته خلقه وهو في حالة تطور وإضافة”.. ورأي الشيخ سعيد صادم بلا شك، فلقد وقر في نفوس البشر جميعا أن الكون نشأ وكفى، وكثير من الناس في الشرق والغرب يؤمنون أن الله خلق العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع.
نقد تقاعس المسلمين.. نحن من يغير وليس الله
ولأنه مؤمن حريص وعالم واسع الاطلاع لطالما انتقد المفكر الإسلامي جودت سعيد المسلمين في نظرتهم السكونية للعالم والدين، فهم برأيه يخالفون في نظرتهم هذه القرآن الكريم، يقول هذا المفكر الجريء ومن منطلق قرآني بحت: نحن سنغير العالم وأنفسنا وليس الله من يغيرنا.. وهذه العبارة الصادمة هي مصداق لقوله تعالى “لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” إنها الآية العظمى والسنّة الكبرى للتغيير البشري والقانون الأساس للإرادة الإنسانية التي تغير وتقلب الموازين، يصحّ في هذه الآية الكريمة القول إنها آية التقدم وسنّة التجاوز، والمضاد الجذري للتواكل والخنوع والاستجداء.. فلماذا أهملها رجال الدين والمفتين والخطباء والباحثين والوعاظ المسلمين؟؟ هذا سؤال لطالما سأله شيخنا، ويسأله كل مفكر غيور..
الحب هو فضل القيمة
أخيرا نصل إلى أجمل ما قاله الشيخ وكتبه، نصل إلى الحب، فتعالوا نقرأ معاً ما كتبه في رسالة وحيدة إلى مؤسس المنطق الحيوي: “إن الحب هو فرق الجهد وفضل القيمة. هل كان المسيح يطلب مستحيلاً حين قال: أحبوا أعداءكم؟ وهل القرآن يقول الحق حين قال: ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم؟ وهل ابن عربي كان زنديقاً حين قال: أدين بدين الحب أني توجهت * * ركائبه فالحب ديني وإيماني” ويتابع مخاطبا المرسل له، وعبره كل الناس: “هل أنت محب؟ … إذاً أنت موجود.. إنه كوجيتو جديد للوجود، يضعه شيخنا مؤسسا على المحبة..
وبعد.. فحضور الشيخ الفيلسوف وإن كان لا يزال متواضعا فهو لربما يصير أقوى بعد غيابه الزمني.. فحكمة الشيخ وفكره هو بالضبط ما تحتاجه الشعوب العربية، والشعوب المسلمة، وغير المسلمة، إن فلسفة الشيخ جودت سعيد ورؤيته تفتح المستقبل أمام العرب الذين سبقتهم شعوب أخرى بأشواط. منحازين إلى العقل، والمحبة، نابذين الأنانيات والكراهيات والعصبيات الجاهلية..
ختاما إن كان من كلمة، نرسلها لروح جودت سعيد الحاضرة أبدا، فهي: يوما سيموت العنف، وينتصر العقل والحب، يوما لن يكون ببعيد.. يا شيخنا..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا