دعت جهة غير معروفة سابقاً، إلى اجتماع في مدينة دورتموند الألمانية، في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري، تحت مسمى مؤتمر “شباب الثورة السورية”، للتعبير عن رفض السوريين للتقارب المتسارع بين نظام الأسد وتركيا، والدعوة إلى استعادة السوريين زمام قضيتهم، وبناء سوريا الجديدة على أسس اللامركزية. وقد كشفت العبارة الأخيرة ببساطة، الجهة التي تقف وراء تمويل سفر المدعوين وإقامتهم، وهو مركز أبحاث صُوري، ممول من قبل “قوات سوريا الديموقراطية”، الأمر الذي دفع الكثير من المتحمسين للتعبير عن رفضهم للانعطافة التركية إلى العزوف عن حضور المؤتمر، بل ورفضه مسبقاً.
تكشف هذه المحاولة الالتفافية، ورد الفعل عليها، عمق الهوة غير المصرح بها بين جمهور الثورة السورية والتيار الكردي السوري الذي يهيمن عليه حزب العمال الكردستاني، وتأتي بالتزامن مع دعوات من أطراف في المعارضة ومن تيارات في “قسد” للتقارب والاندماج، مع شائعات هنا وهناك عن مشروع أميركي لدمج شرق الفرات مع شمال سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة وصنع تحالف قوي ضد النظام، والذي نستطيع أن نجزم مسبقاً بأنه لن يحصل في يوم من الأيام.
منذ العام 2017، وربما قبله، يُطرح بتواتر مُقترح توحيد المعارضة السورية الرسمية، مع “قسد”، وتشكيل تحالف لإسقاط نظام الأسد وإقامة نظام جديد في سوريا. وهذا السيناريو، عدا عن كونه يتجاهل أن المسافة ما بين المعارضة الرسمية و”قسد” هي أطول بكثير من تلك التي بين هذين ونظام الأسد، فإنه متفائل تفاؤلاً غير مبرر لناحية قدرة هذا التحالف على إنجاز المهمة التي عجزت الثورة السورية عن إتمامها بسبب اغلاق الطريق على التغيير من طرف قوى دولية كبرى على رأسها روسيا وإيران.
من جانب آخر، يمكننا أن نعدد عشرات حالات التفاوض بين النظام والمعارضة من جهة، وبين “قسد” والنظام من جهة أخرى، حيث كانت هناك على الدوام عقبات مرئية وواضحة، لو تم تجاوزها لأُنجز اتفاق بين النظام وأي منهما. فتنازل بشار الأسد عن السلطة لأي من أعضاء نظامه كان سيحل العقدة بينه وبين هيئة التفاوض، ومَنح الاعتراف الدستوري بالأكراد في سوريا كان سيشكل نهاية الجفاء وبد مسار من التعاون الوثيق. أما في حالة المعارضة و”قسد”، فالأمر ليس معقداً فقط بمعنى تضارب المصالح، بل إنه بسيط أيضاً، نظراً لكونه جوهرياً جداً. فمن الناحية الأيديولوجية، ثمة تناقض غير قابل للحل، ومن الناحية العملية هو تصور تنطبق عليه بشكل مثالي مقولة تلاقي “المتعوس مع خائب الرجاء”، الذي لا يمكن أن ينتج عنه سوى العويل والبكائيات. فلا “قسد” لديها القوة لإسقاط النظام، ولا المعارضة لديها الشرعية لمنح الأكراد اعترافاً تاريخياً، حتى لو أرادت ذلك.
ونقصد بالتناقض الإيديولوجي والذهني، تصورات كل من الطرفين عن نفسه وأهدافه. فالمعارضة بغالبيتها العظمى هي من العرب السنّة، الذين يعتبرون البلاد بلادهم، وأنهم أمّ الصبي وأبوه، وأن البلد سيكون يوماً ما خالصاً مخلصاً لهم على صعيد السلطة والهوية التي لا يقبلون بمزجها أو تلوينها بأي ألوان أخرى. فيما يقبع في قعر العقل القسدي أن مآل التحركات الحالية النهائي هو انتزاع حصة الأكراد من سوريا وضمه إلى الأجزاء التركية والعراقية والإيرانية التي ستُنتزع ذات يوم لإعلان كردستان الكبرى. وما بين هذين السمتين الرمزيتين شديدتي الجمود، يقبع نظام الأسد ببراغماتيته التي ترى العنصر الكردي مفيداً في الصراعات الإقليمية، خصوصاً ضد الجارة الكبرى تركيا، ويرى النزعة العروبية للمعارضة مكمن قوة له، فهي الشعار الذي يتبناه بإصرار منذ البداية.
أما من ناحية السياسة العملية وتحالفاتها وخريطة القوة المسيطرة داخل كل معسكر، فيمكننا أن نرى بوضوح أن المعارضة الرسمية السورية، العسكرية منها والمدنية، هي رهينة التيار المرتبط بأنقرة عضوياً، وهؤلاء هم أصحاب القول الفصل في أي تقارب من هذا النوع. ووجهة النظر التركية هي أن أي طرح باعتراف رسمي أو سياسي بأكراد سوريا هو جريمة ضد الأمن القومي التركي، يُردّ عليها بشن الحرب ذاتها وضد أي طرف إن اقتضى الأمر. أما ضمن صفوف “قسد”، فإن الغلبة هي لتيار قنديل، القومي المتشدد، إذ يرى أن نظام الأسد أفضل الشركاء بسبب جوهره الأقلوي القابل للتنازل التكتيكي هنا وهناك، بينما ينظر إلى العرب السنّة بوصفهم الكتلة الصماء التي تصعب زحزحتها أو انتزاع التنازلات منها، ويضرب صفحاً بشكل مسبق عن أي فكرة للتلاقي معها.
ثمة مختبران للعلاقة ما بين الطرفين. الأول هو في شرق الفرات، حيث يسيطر الأكراد على منطقة لا تقل نسبة العرب السنّة فيها عن 90%، لكنهم مغيبون بشكل مطلق عن كافة المواقع التي يصنع فيها القرار، ويقتصر حضورهم على الواجهات المحلية الخدمية. ومن الجانب الآخر، لدينا عفرين، وما يحيط بها، حيث نسبة الأكراد أكثر من 90% وتسيطر عليها قوات المعارضة المسماة “الجيش الوطني”، وهنا أيضا لا نسمع ولا نرى أي ملمح يشير إلى سكان المنطقة الاصليين، وبالمطلق أيضاً.
في وقت سابق، اقتنع الأعضاء الأقرب إلى واشنطن في “قسد”، وهم تيار مظلوم عبدي والهام أحمد، أن من الأفضل لهم أن يفاوضوا المعارضة، وأرسلوا عبر مسؤول التحالف الدولي حينها، جيمس جيفري، والسفير الأميركي في سوريا، جول رايبرون، رسالة إلى الائتلاف الوطني السوري يفيد بالجهوزية لبدء مسار تفاوضي جدّي. ويقول المسؤولون الاميركيون إن الرسالة الجدية أفزعت الجانب التركي، وبقيت بلا رد سياسي من جانب المعارضة السورية التي طلبت مهلة للتشاور، وجاء الرد بعد مدة وجيزة حين شنت القوات التركية عملية “نبع السلام” بالتعاون مع قوات المعارضة.
وبالمثل، رفضت “قسد وقاوم كوادرها القنديلوين، بشدة، كل المحاولات الأميركية لدمج العنصر العربي في الإدارة والقرار، ورفضوا منح أي ترخيص لحزب عربي حقيقي في شرق الفرات، ومنحت تراخيص لأحزاب شكلية ينهض بها وجيه طلب منه ذلك من طرف “قسد”. فيما زُجّ بعدد من السكان العرب في السجن بسبب مشاورات فقط لتكوين حزب قوامه عرب المنطقة أو توجه مستقل عن رؤية “قسد” وتصوراتها. بل حاربوا علناً زملاءهم من الأحزاب الكردية السورية المتحالفة مع المعارضة في ما يدعى “المجلس الوطني الكردي”، ومنعوهم من العمل في مناطق نفوذهم.
لا قاعدة أيديولوجية أو نفسية أو سياسية أو سابقة تاريخية تدعم مساعي التلاقي بين حزب العمال الكردستاني الذي يسيطر على شرق الفرات، وبين المعارضة السورية الرسمية التي تتخذ من تركيا قاعدة لها. ولا فرصة لذلك التلاقي، حتى لو وضعت واشنطن كل ثقلها وراءه، ولن يكون محتملاً تغيير هذه القاعدة الصلبة إلى حين تغيّر خريطة القوى وتوازناتها في الشرق الأوسط برمته.
المصدر: المدن