إيران في عنق الزجاجة

علي العبد الله

فاجأ لقاء موسكو الثلاثي، الذي ضم وزراء دفاع وقادة أجهزة مخابرات روسيا وتركيا وسورية، النظام الإيراني، ليس لأن التحضيرات له كانت سرّية، بل لأن الأخير كان يعتقد أنه ذو مكانة رئيسة في حسابات النظام السوري، وأن هذا الأخير لن يقدم على أي خطوة سياسية من دون أخذ الضوء الأخضر منه، ومن دون أن يحجز له مكانا مميزا داخل الخطط والبرامج ونتائجها. وهذا دفعه إلى التحرّك وعرقلة الخطوة التالية في التفاهم الروسي التركي، والتي تقضي باجتماع وزراء خارجية الأنظمة الثلاثة.

اتّخذ النظام الإيراني من سورية منصّة للضغط على خصومه في الإقليم، إسرائيل، تركيا، الأردن، ودول الخليج العربي، والعالم، الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وبوابة للتحوّل إلى شريك في البحر الأبيض المتوسط، من خلال التمدّد إلى موانئها. لذا، سعى إلى تثبيت موقعه فيها عبر تكريس هيمنته وسيطرته على الدولة والمجتمع السوريين من خلال توسيع نفوذه في مؤسّسات النظام العسكرية والأمنية والاقتصادية وفي المجتمعات العشائرية، من خلال توزيع الإعانات الغذائية والطبية وتجنيد الشباب في المليشيات الموالية، والدعوة إلى المذهب الشيعي، وجلب مقاتلين من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان بأعدادٍ كبيرة، مستغلا ما يراه شرعية وجوده على الأرض السورية، جاء بدعوة النظام الحاكم، واستعداده الدائم لتقديم الدعم المالي والنفطي والعسكري وحشد المليشيات في معارك النظام ضد خصومه من المعارضين السوريين، وسعى إلى تأمين وجوده فيها عبر نسخ تجربته في لبنان: إقامة ضاحية جنوبية في منطقة السيدة زينب، من خلال إسكان أسر مقاتلي مليشياته المذهبية فيها، والعمل على تشكيل حزب الله سوري، من دون اعتبارٍ للتباين بين سورية ولبنان، حيث لا تتجاوز نسبة الشيعة في سورية النصف في المئة، وحيث إن الدعوة إلى التشيع لن تُحدِث فارقا كبيرا في التركيبة السكانية، ناهيك عما تثيره من ردود فعل سلبية ضد النظام الإيراني وأذرعه. وهذا ما عبّرت عنه ردود فعلٍ شعبيةٍ سورية حتى بين الموالين للنظام.

لم يكن اللقاء الثلاثي، بحد ذاته، ما أثار قلق النظام الإيراني، ودفعه إلى إعلان تحفّظه على استمرارية البرنامج ثلاثي الخطوات، بل إحساسه أن حلاً روسياً تركياً في شمال سورية قد دخل حيز التنفيذ، من دون اعتبار لمصالحه، هو ودوره هناك وباستخفافٍ تام برد فعله وقدرته على التأثير على هذا المسار التفاوضي والنتائج المتوقعة منه. وهذا دفعه إلى إضاءة الضوء الأحمر للنظام السوري، الطرف الأضعف بين أطراف اللقاء الثلاثي، ومطالبته بضبط حركته وموازنة خطواته وفق مستدعيات العلاقة الخاصة بينهما، لا وفق تفاهماته مع الطرفين الآخرين في اللقاء الثلاثي، والبدء بترتيبات زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سورية وتركيا، للتباحث على دوره وحصّته في التسوية المنتظرة، وهو ما حاول وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان التمهيد له في زيارتيه المفاجئتين إلى لبنان وسورية، وتوجهه اللاحق إلى موسكو.

التقط النظام السوري التحفظ الإيراني باعتباره فرصة لموازنة الضغط الروسي الذي دفعه إلى التفاوض مع النظام التركي، على الضد من رغبته وحساباته، حيث يعتبر نفسه منتصرا في الصراع، وعلى الآخرين تقديم التنازلات له، فسارع لطمأنة النظام الإيراني عبر اتصال هاتفي أجراه وزير خارجيته فيصل المقداد مع نظيره الإيراني، وأرسل مساعد وزير خارجيته أيمن سوسان إلى طهران، ورفض الاستجابة لدعوات النظامين الروسي والتركي من أجل الاتفاق على تحديد موعد (ومكان) عقد المرحلة الثانية من اللقاء الثلاثي، اجتماع على مستوى وزراء خارجية الدول الثلاث، عبر وضع شروط تعجيزية لذلك، وفي مقدمها إنهاء الاحتلال التركي لأراض سورية ووقف دعم الإرهابيين، يقصد فصائل المعارضة المسلحة، وهو ما أعلنه رأس النظام بعد اجتماعه بمبعوث الرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف، وكرّره بعد اجتماعه بوزير الخارجية الإيراني، اللذيْن زارا دمشق قبل أيام.

كان النظام الإيراني قد منّى النفس بتكريس نفسه قوة إقليمية عظمى باستثمار المناخ الدولي الذي ترتب على انفجار تنافس القوى العظمى وانشغالها في مواجهاتٍ مباشرة بينها، عبر اعتماده استراتيجية التوجّه شرقا وعقده اتفاقية شراكة استراتيجية مع الصين مدتها 25 عاما، تستثمر بموجبها الصين مبلغا ضخما في الاقتصاد الإيراني، 400 مليار دولار، وعمله على عقد اتفاقيةٍ مماثلةٍ مع روسيا، على خلفية تقاطعه مع النظامين الصيني والروسي، في تحدّيهما النظام الدولي غربي القواعد والنتائج، واتفاقه مع روسيا على تنشيط طريق تجاري جنوب شمال، من الأراضي الإيرانية إلى الأراضي الروسية، ومنها إلى دول الاتحاد الأوروبي، قطارات وموانئ على بحر قزوين، وإشراكه الهند في المشروع عبر الاتفاق معها على استثمار مبلغ 150 مليون دولار لتأهيل جزء من ميناء تشابهار الإيراني الواقع على بحر العرب، جنوب شرق إيران، واستخدامه في تجاوز منافستها باكستان وفتح طريق إلى أفغانستان، وانضمامه، النظام الإيراني، إلى منظمة شنغهاي للتعاون، وسعيه إلى الانضمام إلى تجمع الدول ذات الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم (بريكس)، والدخول في حوار سياسي مع السعودية لردم الهوة وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها، واستخدام كل هذه الخطوات للضغط على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في مفاوضات العودة إلى اتفاق عام 2015 بشأن البرنامج النووي الإيراني، المسمّى رسميا “خطّة العمل الشاملة المشتركة”، وفق شروطه.

لم تتطابق حسابات حقل النظام الإيراني مع حسابات بيدره؛ فقد دهمته التغيّرات المحلية والإقليمية والدولية، من الاحتجاجات والتظاهرات الواسعة التي انفجرت إثر قتل المواطنة الإيرانية الكردية مهسا (زينة) أميني، على يد شرطة الأخلاق، على خلفية عدم التزامها بحدود الحجاب الرسمي، والتحاق قوى اجتماعية محتقنة من سياسات النظام التمييزية والمجحفة بهذه الاحتجاجات، أعراق وإثنيات وعمّال ومعلمون ناقمون على شروط العمل والرواتب وتراجع القدرة الشرائية بسبب التضخم وانهيار قيمة العملة الوطنية، وتدنّي مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والمياه، الشفة والخاصة بالزراعة، وارتفاع أسعار الوقود، البنزين والغاز المنزلي، ثلث سكان إيران الآن في فقرٍ مدقع، وطلاب أرهقتهم القيود والحدود السياسية والاجتماعية، إلى انهيار مراهنته على انتصارٍ سريع تحقّقه روسيا في عدوانها على أوكرانيا والبناء عليه في التخلص من الهيمنة الأميركية على النظام الدولي الحالي. وقد زاد الطين بلةً تريث الصين في تنفيذ مشاريع البنى التحتية، كما تقتضي اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، في ضوء خضوع النظام الإيراني للعقوبات الغربية وتخوّف الشركات الصينية من تعرّضها للعقوبات الأميركية الثانوية، وتبنّي الصين وجهة نظر دول الخليج العربي في خلافها مع النظام الإيراني، بما في ذلك حول البرنامج النووي واحتلاله الجزر الإماراتية الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، كما عكستها بيانات قمم الرئيس الصيني شي جين بينغ مع قادة عرب خلال زيارته إلى السعودية، وعودة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الحكم، وهو صاحب موقف مواجهة إيران في عقر دارها، خصوصا وقد بات له وجود على الشاطئ الآخر من الخليج العربي، وفّرته له اتفاقات إبراهيم التطبيعية، ومراوحة الحوار مع السعودية في مكانه وتجرّؤ قوى محسوبة من حلفائه على اتخاذ مواقف تتعارض مع توجهاته وتصوراته، تبنّي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، المحسوب على تكتل الإطار التنسيقي، العراقي (الشيعي)، لتسمية الخليج العربي، على الضد من التوجّه الإيراني لفرض اسم الخليج الفارسي، كرّر الموقف حتى بعد تبلغه اعتراض النظام الإيراني على هذه التسمية، وانخراط النظام السوري في التفاوض مع النظام التركي من دون تشاور مسبق معه.

لجأ النظام الإيراني إلى العنف العاري والمباشر في مواجهة المحتجّين والمتظاهرين، استخدم تقنيات الذكاء الصناعي الصينية المخصّصة لمراقبة الوجوه في مراقبة المتظاهرين وتصويرهم واعتقالهم لاحقا بموجب هذه الصور، بالإضافة إلى تطبيق إيراني اسمه “العين الثانية”، الذي روّجه باعتباره وسيلة ناجحة لمراقبة الأهل هواتف أولادهم القاصرين، في التجسّس على هواتف المواطنين، في إطار استراتيجية ردع حاسمة، لا مكان فيها للمساومات أو الحلول الوسط، رصاص وهراوات وغاز مسيّل للدموع، اعتقالات بالآلاف وأحكام قضائية طويلة وأخرى بالإعدام، تم إعدام أربعة محتجين من بين مائة محكوم بالإعدام، بعد محاكماتٍ قصيرة وسريعة، مع تجاهل تام لردود الفعل الحقوقية والثقافية، المحلية والدولية، التي أعلنت اعتراضها على القمع الوحشي والأحكام الجائرة، نشرت أكثر من 700 شخصية أدبية وفنية وثقافية من دول مختلفة بياناً بعنوان “انتفاضة ضد جرائم القتل التي يرتكبها النظام الإيراني”، دانوا فيه إعدام المواطنين على خلفية مشاركتهم في التظاهرات، وطالبوا مؤسّسات حقوق الإنسان والشخصيات الثقافية في العالم بالعمل لوقف عمليات الإعدام، وتجاهل الأصوات المحلية التي دعت إلى الحوار مع المحتجّين، وإجراء تغيير في بعض السياسات التي لا تلقى إجماعا وطنيا، من جهة، وانخراطه في العدوان الروسي على أوكرانيا من خلال تقديم مسيّراتٍ انتحارية لروسيا وتدريب الجنود الروس على استخدامها. من جهة ثانية، وتوسيعه شقّة الخلاف مع الدول الغربية، الخلاف مع فرنسا على خلفية الرسوم الكاريكاتورية في مجلة “شارلي إيبدو”، التي تناولت المرشد الأعلى، ومع المملكة المتحدة على خلفية إقدامه على إعدام مساعد وزير الدفاع الإيراني السابق علي رضا أكبري رغم كونه يحمل الجنسية البريطانية، من جهة ثالثة. الإعدام والعودة عن قراره تخفيف القيود على ارتداء الحجاب رسالة تحد للإيرانيين وللدول الغربية التي استضعفته واستهانت بقدراته عبر تأييدها الاحتجاجات.

لقد أحرق النظام الإيراني مراكبه، وقطع الأمل في العودة إلى الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الغربية، ما يعني مزيدا من التعقيدات الاقتصادية، انكماش وركود وتضخّم، والاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية الحتمية، ما وضعه أمام استحقاقاتٍ مصيريةٍ لا بد من مواجهتها وإيجاد مخارج عملية لحلها، وإلا أمضى السنوات المقبلة من مسيرته في الردّ على احتجاجات المواطنين الجائعين والمغبونين وتظاهراتهم، فالنظام الإيراني مصابٌ بتشوّه خلقي له ساقٌ قوية، تجسّدها القدرة العسكرية، وساق ضعيفة، تجسدها القدرة الاقتصادية، وما يزيد في دقّة موقفه عدم قدرة الساق القوية على حل مشكلات الساق الضعيفة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى