فرَض التصعيد الأخير المتبادل بين القوات التركية وقوات النظام على محاور التماس في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد» في حلب، تعديلاً في خريطة الطريق المتعلقة بمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق.
وبعد أن كان الحديث يدور حول المرحلة الثانية من اللقاءات الثلاثية باجتماع وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا التي ستمهِّد للقاء رؤساء الدول الثلاث، لينفتح الطريق أمام خطوات إعادة العلاقات التركية السورية إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، بدا أن الأمور تقتضي تكرار لقاء وزراء الدفاع مجدداً بعد لقائهم الأول الذي عُقد في موسكو في 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
وقال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار سيلتقي نظيره السوري علي محمود عباس، قبل اجتماع وزراء الخارجية، المتوقع عقده في منتصف فبراير (شباط) المقبل.
وتصاعدت المواجهات بين القوات التركية وقوات النظام شمال سوريا، بالتوازي مع الحديث المتصاعد عن الإعداد للقاء وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا، في إطار المرحلة الثانية في مسار تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق. وشهد شمال سوريا، السبت، استمراراً للتصعيد الميداني بين مناطق انتشار القوات التركية والفصائل المتحالفة معها من جهة، ومناطق قوات النظام و«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» من جهة أخرى.
وأعلنت وزارة الدفاع التركية أن أحد جنودها تُوفي متأثراً بجروح أصيب بها جراء قصف على قاعدة تركية في ريف حلب. وجاء مقتله بعد يوم من مقتل ضباط سوريين أحدهم برتبة لواء، بقصف تركي على موقعهم شمال سوريا.
وفي ظل هذه التطورات، أكد كالين، في تصريحات بُثّت، ليل السبت – الأحد، أنه على الرغم من دعم تركيا العملية السياسية التي بدأت أواخر شهر ديسمبر الماضي بلقاء وزراء دفاع تركيا وروسيا وسوريا في موسكو، بحضور رؤساء أجهزة مخابرات الدول الثلاث، إلا أن العملية العسكرية البرية التركية ضد مواقع «قسد» في شمال سوريا «ما زالت خياراً مطروحاً»، وقد تنطلق في أي وقت تتعرض فيه حدود تركيا وأمنها للتهديد.
وهددت تركيا مراراً منذ مايو (أيار) الماضي بشن عملية عسكرية تشمل مواقع «قسد» في منبج وتل رفعت وعين العرب (كوباني) لإبعاد القوات الكردية عن حدودها لمسافة 30 كيلومتراً، واستكمال إقامة مناطق آمنة بهذا العمق لاستيعاب اللاجئين السوريين لديها، وتأمين حدودها في الوقت نفسه.
ولفت كالين إلى أن روسيا والولايات المتحدة لم تفيا بالوعود التي جرى تقديمها لتركيا عام 2019، والتي تضمنت إبعاد عناصر «قسد» مسافة 30 كيلومتراً عن الحدود مقابل تعليق عملية «نبع السلام» العسكرية التركية في شرق الفرات. وأضاف: «نريد الأمن على حدودنا… ولا نستهدف أبداً مصالح الدولة السورية ولا المدنيين السوريين… هدفنا هو مكافحة الإرهاب وتأمين حدودنا وشعبنا».
واعتبر مراقبون أن تصريحات كالين بشأن عقد لقاء جديد لوزراء الدفاع وتجديد الحديث عن العملية العسكرية تعكس قراءة تركية لموقف دمشق تشير إلى نوع من التباطؤ وعدم وجود نية لدى النظام السوري للسير بالوتيرة نفسها وتلبية المتطلبات المتعلقة بمكافحة الإرهاب (التعاون ضد قسد) وتحقيق شروط مناسبة لعودة طوعية وآمنة للاجئين في وقت قريب، وبعد التصريحات التي صدرت عن الرئيس الأسد، الخميس، عقب لقاء مع المبعوث الرئاسي الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف، التي تحدّث فيها عن عدم إمكانية تحقيق تقدم في مسار التطبيع مع أنقرة، أكدت سوريا إنهاء «الاحتلال التركي» ووقف دعم المجموعات الإرهابية (فصائل المعارضة المسلّحة المدعومة من أنقرة) في شمال البلاد، وتكرار التصريحات نفسها خلال لقائه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان.
وقال الأسد، خلال استقباله عبد اللهيان، السبت، إن «الدولة السورية لن تسير إلى الأمام في الحوار مع تركيا إلا إذا كان هدفها إنهاء الاحتلال ووقف دعم التنظيمات الإرهابية». وأكد وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، التصريحات نفسها، في مؤتمر صحافي مع نظيره الإيراني، قائلاً إنه «لا يمكن الحديث عن إعادة العلاقات الطبيعية مع تركيا من دون إزالة الاحتلال ووقف دعم الإرهاب».
من جانبه قال عبد اللهيان إن جهود بلاده الدبلوماسية ستستمر لتحقيق التقارب وحلّ المشكلات العالقة بين سوريا وتركيا، لافتاً إلى أن طهران لعبت دوراً كبيراً في إقناع تركيا بتعليق العملية العسكرية التي كانت تعتزم القيام بها في شمال سوريا.
سيناريو معاكس
وبينما وضعت دمشق هذين الشرطين الأساسيين للتقدم في المحادثات مع تركيا، أوصى «معهد هدسون للأبحاث»، في تقرير للباحث التركي عمر أوزكيزيلجيك، والزميل في المركز مايكل دوران، بتوحيد مناطق نفوذ تركيا وأميركا في سوريا، من خلال خريطة طريق تفضي إلى حل الخلافات بين الجانبين التي بدأت منذ أكثر من 8 سنوات، بسبب تحالف الرئيس الأسبق باراك أوباما مع وحدات حماية الشعب الكردية؛ أكبر مكونات «قسد»، والتي تعتبرها أنقرة تهديداً لأمنها.
ولفت التقرير إلى أن تركيا اضطرت للاصطفاف مع روسيا في سوريا بسبب الضغوط التي تعرضت لها من قِبل الولايات المتحدة، التي فضّلت «قسد» على الشراكة الممتدة لـ70 عاماً مع تركيا الحليفة في حلف شمال الأطلسي «ناتو»، وذلك على الرغم من تطابق مواقف أنقرة وواشنطن في كثير من القضايا الدولية كالغزو الروسي لأوكرانيا ورفض ضم شبه جزيرة القرم وغيرها من الملفات.
ووفقاً للتقرير، يعبر المسؤولون الأتراك، صراحة، عن أن التحالف بين واشنطن والوحدات الكردية هو الشاغل الرئيس للأمن القومي التركي. ونتيجة لذلك فإن السياسة التركية تشهد انقساماً ملحوظاً؛ إذ تدعم أنقرة أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وكأن هدف السياسة التركية هو تقويض القوة الروسية، وفي الوقت نفسه تشارك مع روسيا في عملية دبلوماسية في سوريا، ستسهم، إذا وصلت إلى نهايتها المنطقية، في تحسين موقف روسيا الدولي. وإذا تحقق أهداف هذا التقارب الذي ترعاه روسيا بين تركيا والنظام السوري، فإن الضغط التركي على روسيا في سوريا سيختفي، وستقف تركيا وروسيا والنظام بصفٍّ واحد ضد وحدات حماية الشعب وستجد الولايات المتحدة نفسها وحيدة في شمال شرقي سوريا.
ولفت التقرير إلى أنه في حال حدث ذلك، فإن إدارة بايدن ستجد نفسها أمام 3 سيناريوهات؛ أولها الانسحاب من سوريا وتركها لتركيا وروسيا وإيران، وثانيها البقاء في شرق الفرات ودفع تركيا نحو مزيد من التقارب مع روسيا، ومع مرور الوقت ستتفاوض واشنطن على الانسحاب، أما ثالثها فيستلزم العمل مع تركيا لبناء سوريا تخدم مصالح أميركا وحلفائها.
واعتبر التقرير أن الخيار الأخير خطوة منطقية جيواستراتيجية سليمة، لكنها تحمل تكلفة سياسية باهظة مقدماً، فمن أجل كسب الأتراك يتعين على واشنطن إنهاء تحالفها مع وحدات حماية الشعب الكردية.
المصدر: الشرق الأوسط