عندما تتحوّل الإنسانيّة إلى رميات تماسّ

عبد الناصر حوشان

تُعتبر آلية تمرير المساعدات الدوليّة للسوريين عبر الحدود من أكثر القضايا الإنسانية عرضة للابتزاز والاستغلال السياسي، حيث تتكرر الصفقات والتنازلات الأممية لصالح النظام الروسي مع كل مشروع تمديد لها، وكان آخرها التمديد الأخير للعمل بهذه الآلية بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم «2672» لسنة 2023 الذي مدّد العمل بها لمدة ستة أشهر فقط، وقد حمل في طياته إنذارا بأنّه آخر تمديد لهذه الآلية والتوجّه لزيادة مشاريع التعافي المبكر في سورية، وبالتالي الخضوع للمطالب الروسيّة في وجوب تمرير المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس، لتتحوّل المساعدات الإنسانيّة إلى رميات تماسّ ومصير الفئات المستهدفة الجوع ثم الركوع.

ويعتبر القانون الدولي الإنساني هو القانون الناظم لأحكام أساليب ووسائل الحرب وحماية ضحايا النزاعات المسلحة، ومنها أعمال الغوث الانسانيّ التي تقوم بها الدول ومنظمات الإغاثة الدولية، تجاه ضحايا النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، ومنه أشتقّ مصطلح «التدخّل الإنساني» أثناء الصراعات المسلّحة والذي يُعتبر من اهم القضايا القانونيّة واعقدها على صعيد القانون الدولي، حيث تتنازعه نصوص ميثاق الأمم المتحدّة وخاصّة المادة الثانية منه التي تحظر التدخّل في الشؤون الداخليّة للدول، واحترام السيادة الوطنيّة والاستقلال السياسي، ونصوص القانون الدوليّ الإنساني التي تنصّ على وجوب حماية الفئات المحميّة وتخفيف معاناتهم التي تتسبّب بها الأعمال العدائيّة، وإغاثتهم وتأمين السلع الضرورية لحياتهم، وضمان وصولها اليهم.

التأصيل القانونيّ للتدخّل الانساني:

يعتبر التدخل الإنساني من بين الوسائل التي يُقرّها القانون الدولي الإنساني لضمان احترام وكفالة احترام مبادئه وقواعده، استناداً لأحكام المادة الأولى المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949التي تنص على أنه: “تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تحترم الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال”، وبذلك فالدول الأطراف في الاتفاقيات ملزمة بتنفيذ أحكام هذه الاتفاقيات من طرفها وملزمة كذلك بمراقبة تنفيذها من طرف الدول الأخرى، دون تحديدها لكيفية أو طريقة المراقبة ودون حصرها في مجال معيّن، وهو الأساس القانونيّ لحق وواجب الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف الأربع في اللجوء إلى أي وسيلة كانت لكفالة احترام الاتفاقيات من قبل غيرها من الدول، بما في ذلك اللجوء إلى استخدام القوة المسلحة، وهو ما تأكده أحكام المادة «89» من الملحق الإضافي الأول لسنة 1977 والتي تنص على أن: “تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تعمل، مجتمعة أو منفردة، في حالات الخرق الجسيم للاتفاقيات وهذا الملحق، بالتعاون مع الأمم المتحدة وبما يتلاءم مع ميثاق الأمم المتحدة”.

وتحدّد اتفاقيات جنيف 1949 والملحقان الإضافيان لها 1977 قواعد لضمان توفير الإغاثة التي يستحقها ضحايا النزاعات، المادتين «70 و71» من الملحق الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف والسارية على النزاعات المسلحة الدولية، وفي المادة «18» من الملحق الإضافي الثاني السارية في النزاعات المسلحة غير الدولية.

وكذلك قواعد القانون العرفي الإنساني ومنها القواعد «31و 32 و53 و54 و55 و56»، وهذه القواعد، التي تم جمعها في دراسة للجنة الدولية للصليب الأحمر عام 2005 مُلزمة لجميع الأطراف في النزاع، حتى لو لم تكن موقعة على الاتفاقيات، والتي تتضمن جماعات مسلحة من غير الدول.

تنفيذ عمليات الإغاثة في النزاعات المسلحة الدولية:

إنّ اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 تخوِّل الدول الحامية سلطات أوسع في هذا الشأن، سنداً للمواد المشتركة «8، 8، 8، 9» من الاتفاقيات الأربع التي تنصّ على أن: تطبق هذه الاتفاقيات بمعاونة وتحت إشراف الدول الحامية التي تكلف برعاية مصالح أطراف النزاع وطلباً لهذه الغاية يجوز للدول الحامية أن تعيّن بخلاف موظفيها الدبلوماسيين أو القنصليين مندوبين من رعاياها أو رعايا دول أخرى محايدة، ويخضع تعيين هؤلاء المندوبين لموافقة الدول التي سيؤدون واجباتهم لديها.

ثم جاء الملحق الإضافي الأول لسنة 1977 المتعلق بالنزاعات المسلحة الدولية ليؤكِّد على تفعيل دور نظام الدولة الحامية عبر نصّ المادة «5» منه والتي جاءت تحت عنوان تعيين الدول الحامية وبديلها على أنه: “يكون من واجب أطراف النزاع أن تعمل، من بداية ذلك النزاع، على تأمين احترام وتنفيذ الاتفاقيات وهذا الملحق وذلك بتطبيق نظام الدول الحامية خاصة فيما يتعلق بتعيين وقبول هذه الدول الحامية طبقاً للفقرات التالية:

تكلف الدول الحامية برعاية مصالح أطراف النزاع.

ويجب على أطراف النزاع، إذا لم يتم تعيين دولة حامية، أن تقبل دون إبطاء العرض الذي قد تقدمه اللجنة الدولية للصليب الأحمر أو أية منظمة أخرى تتوفر فيها كافة ضمانات الحياد والفاعلية، بأن تعمل كبديل بعد إجراء المشاورات اللازمة مع هذه الأطراف ومراعاة نتائج هذه المشاورات، ويخضع قيام مثل هذا البديل بمهامه لموافقة أطراف النزاع. ويبذل هؤلاء الأطراف كل جهد لتسهيل عمل البديل في القيام بمهمته طبقاً للاتفاقيات وهذا الملحق.

ومن خلال نص المادة الخامسة أنها منحت الدول الحامية مسؤولية كفالة احترام وتطبيق أحكام الاتفاقيات والملحق الإضافي الأول، وهي سلطة مزدوجة «الوساطة والحراسة» إذ أوجبت بأن تكون وسيطاً محايداً بين أطراف النزاع وفي ذات الوقت تراقب المسائل المرتبطة بتطبيق القانون الدولي الإنساني، وبالتالي جعلها صاحبة اختصاص عام في الرقابة على كل ما يتعلق بالقانون الدولي الإنساني أثناء النزاع المسلح.

مخاطر اللجوء إلى خيار تمرير المساعدات الانسانيّة عبر خطوط التماسّ: العمل الإنساني لا يمكن أن يتم دون وجود بيئة آمنة تكفل حماية الأفراد وطواقم عمل المنظمات، وضمان وصول المساعدات إلى مستحقّيها بسلام، ودون إعاقة من قبل الأطراف المتصارعة، أو من قبل جهات أخرى قد تكون مرتبطة بطرف ثالث أو مرتبطة بالأطراف المتصارعة بروابط سريّة.

وحيث أنّه لا توجد أي دولة تتمتّع بـ «الامتياز القانونيّ» كدولة حامية في النزاع السوري، حتى اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر العاملة في سوريّة لم تحصل عليه بسبب رفض النظام السوري منحها الموافقة على ذلك وحصر نشاطها فيما يسمح به من الأعمال وهذا ما أكّده تقريرها لسنة 2013 المُتضمّن : «بأنها لم تحصل على موافقة الحكومة السوريّة، ما حال دون قيامها بواجبها بزيارة أماكن الاحتجاز والحوار مع الجيش/قوا ت الأمن السورية، في حين أدى انعدام الأمن على الأرض والانقسامات بين الجماعات المسلحة إلى إحباط إحاطات القانون الدولي الإنساني المخطط لها لأعضائها. ولم تسمح القيود الحكومية السورية وانعدام الأمن بالتوصيل المحايد للمساعدات الإنسانية، بما في ذلك الإمدادات الجراحية/الإسعافات الأولية. ركزت فرق الجمعية الوطنية/اللجنة الدولية للصليب الأحمر، دون رادع، على ضمان تلبية النازحين/المقيمين الأكثر ضعفاً والمتضررين من النزاع لاحتياجاتهم الطارئة من الغذاء والماء والضروريات اليومية الأخرى. ومع ذلك، لم يكن من الممكن الوصول إلى الأشخاص المستضعفين دائما، لاسيما عبر الخطوط الأمامية». فإن المخاطر الجسيمة التي ستنجم عن العمل بآلية الإمداد عبر خطوط التماس يمكن اختصارها بما يلي:

  • غياب العمل بـ «نظام الدول الحامية» في النزاع السوريّ: مما يعني غياب «الوسيط والحارس» والرقيب على تنفيذ نصوص القانون الدوليّ الإنساني، وبالتالي عدم قدرة منظمات الإغاثة على تحمّل مسؤولية إيصال الاحتياجات والإشراف والرقابة على توزيع المساعدة والتأكد من عدم تغيير وجهة المساعدة أو استعمالها لأغراض عسكرية لأطراف النزاع.
  • غياب «آليّة الممرّات الإنسانيّة الآمنة» : والتي يُطلق عليها أحيانا «الملاذات الآمنة أو المناطق الإنسانية الآمنة» والتي تعني إنشاء منطقة خالية من الوجود العسكري، أثناء الاضطرابات أو نزاع مسلح بقصد حماية المدنيين، أو المواقع والطرق والمعابر المتفاوض عليها بين أطراف النزاع من أجل نقل المساعدات للضحايا وإيصال المساعدات والخدمات الإنسانية يقوم طرف ثالث بحمايتها عادة ما تكون قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أو الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر، ويكون هذا الطرف خارج النزاع القائم، وهذه الآليّة مفقودة في النزاع في سوريّة بسبب عدم استجابة النظام لمطالب الأمم المتحدّة من جهة، وبسبب استخدام النظام الروسي «حق النقض» في مجلس الأمن ضد تمرير أي مشروع قرار قد يُطرح في هذا الشأن.
  • غياب آليّة «وقف إطلاق نار شامل» في سوريّة: لقد تهرّب النظام السوريّ بدعم من حلفائه من الالتزام بوقف اطلاق النار الذي فرضته خطة عنان وبيان جنيف1 والقرار 2118 لعام 2013 وغيرها من القرارات الدوليّة ذات الصِّلة ونجح في تحويله إلى تفاهمات ثنائيّة مع تركيا بما يُسمّى «خفض التصعيد» وغياب الضمانات الدوليّة المُلزمة للنظام وحلفائه يجعل المنطقة عرضة لاندلاع معارك طاحنة في كلِّ وقت وبالتالي تفاقم الأزمة الانسانيّة، ما يُسبب عجزاً لدى المنظمات العاملة في تلبيّة المتطلّبات، والحيلولة دون الاستجابة السريعة للوصول للفئات المستهدفة.
  • غياب الحماية الدوليّة: إن هذه المنظّمات لا تتمتّع بغطاء عسكري «دوليّ» يؤمِّن لها الحماية سواء من خطر قيام الأطراف المتحاربة باستهداف طواقمها أو لتأمين المرور الحر للإمدادات الانسانيّة، لأنّ المناطق التي تحتوي على المستودعات وطرق إيصالها للمناطق «المُحرّرة» تقع تحت سيطرة النظام والروس والإيرانيون الذين لهم سوابق باستخدام سلاح التجويع ضد الشعب السوري من خلال الحصار الذي أدى إلى تهجير مئات الألاف من مناطق ريف دمشق وحلب أو استهداف قوافل الإغاثة كما فعلت روسيا في حلب في عام 2016، كما يمكن لهم الإيعاز للميليشيات التابعة لهم بالتعرض لقوافل الإغاثة الأمر الذي يُهدّد سلامة العاملين وبالتالي خلق مبرِّر لإيقاف عملية تمرير المساعدات عبر خطوط التماس ودفع الأمم المتحدة لإيقاف تدفّقها.
  • وفي ظلّ غياب الرقابة والحماية الدوليّة للمساعدات الإنسانيّة: وبما أنّ النظام ومؤسساته هي التي ستقوم بتنفيذ برنامج الإمداد وهي مؤسسات معروفة بارتباطها مع الأجهزة الاستخباراتيّة التابعة للنظام، وأن موظفيها هم «مخبرين وعملاء» لهذه الأجهزة وعدم قدرة المجتمع الدوليّ على منع النظام من استخدامها كسلاح للتجويع، فإنّ آلية تقديم المساعدات عبر خطوط التماس تُعتبر مخالفة لمبدأ تحريم استهداف أو تجويع السكان كوسيلة من وسائل الحرب، القاعدة «53» في دراسة عن القانون الدولي الإنساني العرفي، ويتمّ التأكيد على ذلك عندما يجد المدنيون أنفسهم في قبضة الطرف الخصم، والذي قد ينشأ عن احتلال الأراضي، أو كون المنطقة محاصرة، أو كون الأفراد معتقلين أو محتجزين.

وبناءً على ما سبق واستناداً لأحكام المواد «70/1» و«89» من المُلحق الإضافي الأوّل سنة 1977، والمادة «3» المشتركة من اتفاقيّات جنيف الأربع لعام 1949، واستناداً الى الفقرتين «8 و15» من قرار مجلس الأمن الدولي رقم «1296» لعام 2000 الخاصّ بحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلّحة، بإمكان الأشخاص على اختلافهم المشاركة في عمليات الإغاثة، سواء كانوا ممثلين عن الدول الحامية، أو جمعيات الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر ومنظمات الدفاع المدني، أو دول محايدة أو دول ليست طرفاً في النزاع، ومنظمات إنسانية أو الأمم المتحدة. أو السكان أنفسهم المشاركة في عمليات الإغاثة. وشرط حصول هؤلاء الموظفون على موافقة طرف النزاع الذي ينفذون على أراضيه واجباتهم، وبما أنّ موافقة النظام السوريّ على عمل هذه المنظّمات سيلزمها بالشروط والقيود التي تُمكّنه من التحكّم بتدفّق المساعدات، والتحكّم في طرق عبورها، وآليّات توزيعها عبر عملائه من أفراد ومؤسسات ومنظّمات محليّة أو إقليمية، وبالتالي تفريغ هذا العمل الإنساني من مضمونه وتحويله إلى سلاح بيد هذا النظام ضد الشعب، فإنّ انتقال المساعدات الدولية عبر خطوط التماس يُمكِّن النظام من استخدامها في حصار المناطق المستهدفة وهو البارع باستخدام سلاح التجويع وصاحب شعار «الجوع أو الركوع»، الذي نجح به وعلى مرأى ومسمع من العالم والمنظمات الانسانيّة في حصار وتركيع سكّان حيّ بابا عمر وبقية أحياء حمص وداريا والغوطة وحلب، وكما سبق له أن استهدف قوافل ومستودعات الإغاثة الإنسانية في محافظة حلب وحرستا وغيرها من المناطق. كما أنّ العمل بهذه الآلية تنسف كل محاولات وإجراءات الضغط على النظام لوقف جرائمه، ويمنحه هامشاً واسعا من القدرة على نهب المساعدات والتحايل على الإجراءات الأممية والتي استطاع من خلالها من قبل السطو على المساعدات الإنسانية عبر شبكات متعدّدة داخلية وخارجية من عملائه وشركائه حسب ما أكدته عدة تقارير دولية.

لذا لابدّ من رفع يدّ النظام عن المساعدات الدوليّة وعدم تمكينه منها، إمّا عبر الإبقاء على آليّة تمرير المساعدات الانسانيّة عبر الحدود، أو عبر العمل بنظام «الدولة الحامية»، أو عبر تشكيل آليّة مستقلّة عن برنامج الغذاء العالمي خاصّة بالمناطق المحررة، أو تشكيل تحالف دوليّ إنساني خاص بها استنادا للنصوص القانونيّة المذكورة آنِفاً.

 

المصدر: نينار برس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى