رجلٌ من بلدي

عبد الحفيظ الحافظ

  هلْ يعشقُ الشجرُ ويموتُ كما يعشقُ الإنسانُ ويموت؟ قدَّمَ لي مدرسُ التاريخِ قائلاً : – هذه يومياتٌ كتبْتُها منذ ثلاثين عاماً ، قدْ تجدُ فيها أيها الصديقُ شيئاً مفيداً، وانسحبَ بخطواتِه الوئيدةِ إلى صفه . انتظرتُ مرورَ الساعاتِ على جمرِ اللهفة ، حتى وصلتُ إلى البيتِ ، فجلستُ خلفَ طاولتي ، وقلَّبتُ أوراقَ الدفترِ، وتوقفتُ عندَ عنوان ” رجلٌ من بلدي ” المؤرخ في 28 نيسان 1927 الساعةَ التاسعةَ صباحاً . 1 في هذا الصباحِ المشرقِ توقفتْ سيارةٌ عسكريةٌ أمامَ المدرسةِ ” الرشدية ” في حي الحميدية ، ونزلَ منها مستشارُ المتصرف، وطلبَ مقابلةَ مديرها، فقادَه المستخدمُ إلى غرفةِ وكيلِ المدير . طلبَ المستشارُ مثولَ المديرِ أمامَ المتصرف في السرايا، فارتدى الوكيلُ معطفَه ، وأخذَ طربوشَه ، وقالَ : – تفضلْ يا سيدي . أمامَ بابِ المديرِ طلبَ من المستشارِ أن ينتظر ، ووقفَ أمامَ مرآةٍ جداريةٍ يتأملُ هندامَه وربطةَ عنقِه، وأصلحَ منْ وضعِ طربوشِه ، ثمَّ قرعَ البابَ مرةً واحدة ، وانتظرَ حتى سمعَ صوتاً هادئاَ : – تفضل . بعدَ دقيقةٍ دعا الوكيلُ المستشارَ إلى الدخولِ ، وبقي المديرُ جالساً خلفَ مكتبِه وسألَ بوقارٍ : – ماذا عندكَ أيها المستشار ؟. – إن المتصرفَ يطلبُ منكَ المثولَ أمامَه في.. وقبلَ أن ينهيَ المستشارُ رسالتَه ، وقفَ المديرُ والشررُ يقدحُ من عينيه ، وضربَ الطاولةَ بيدِه : – قلْ للمتصرف : الأستاذِ عبد الحميد الحراكي لا يلبي دعواتِ المتصرفين، والله لو سمعتْ المدينةُ بهذا الاستدعاءِ ، الذي وِجهَ إليَّ لزلزلتْ الأرضَ تحتَ أقدامِكم أيها المحتلون .. اغربْ منْ وجهي قبلَ أن ينالَكَ غضبي . 2 لمْ تمضِ إلا ساعةٌ واحدةٌ حتى تسربَ ما حدثَ في الإدارةِ إلى عددٍ من المعلمينَ والطلاب ، فتجمعَ طلابُ الصفوفِ العليا في الباحة ، ثم انضمَّ إليهم الآخرون ، وخرجُوا سيلاً من المدرسةِ إلى الأزقةِ والمدارسِ القريبةِ، يرافقُهم المعلمونَ هاتفين : – طالعوهم بدنا إياهم .. تسقطُ فرنسا تسقط تسقط .. تعيشُ سوريا حرةً مستقلةً تعيش تعيش .. وبعدَ وصولِ طلابِ المدارسِ الأخرى أنشدوا : – في سبيلِ المجدِ نحيا أو نبيد ، سوريةُ لا تفزعي من ضربِ المدفعي ، يا ظلامَ السجنِ خيمْ إننا نهوى الظلامَ .. اشتعلَ خبرُ استدعاء الأستاذ الحراكي في المدينةِ كالنارِ في البيادر، وتلقى أصحابُ الدكاكينِ الطلابَ بالقضامة الملبسةِ وبقطعِ السكرِ البلوري ، وبعضُهم قدَّمَ سِلالَ البيضِ وأكياسَ البندورة ، واخترقَ المظاهرةَ أبو عبدو الحلاقُ باحثاً عن ابنه ، فلاذَ عبدو خائفاً خلفَ ظهري ، فلمحَه والدُه ، فأسرعَ إليه ، وقبَّلَه بحرارة ، وحملَ الطالبَ الذي يهتفُ على كتفيه تاركاً صالونَه والرجلَ المنقوعَ الوجِه بالصابون . في ساحةِ الشهداءِ تجمعتْ سيولُ الطلابِ المتدفقةِ من أحياء المدينة ، وانطلقتْ باتجاه مبنى السرايا، فتصدتْ لهم طلائعُ الجنودِ الفرنسيين ، فقذفَهم الطلابُ بالبيضِ والبندورةِ ، وتابعوا زحفَهم إلى السرايا وحاصروها .. 3 عندما مرَّتْ المظاهرةُ أمامَ مقهى السقا ، ركضَ تلميذٌ إلى طاولةٍ طلباً لكأسِ ماء ، فقدمَها له رجلٌ بشاربين أسودين ، وسألَه : – لمَ تتظاهرون اليومَ يا ولدي ، فحدَّثه الفتى متعثراً لاهثاَ بما حدثَ ، فقال : – برحمةِ أخي سعيد سيدفعُ هذا المتصرفُ وأسيادُه الثمن . في تلكَ اللحظةِ كانَ عاملُ المقهى يدورُ بسطلِ النارِ بينَ الطاولاتِ ، فسمعَ عبارةَ الرجلِ ، فاقتربَ منه هامساً : – أنا بخدمتِكَ يا خيرو الشهلة ، فنظرَ في وجهه وخاطبَه : – لكنكَ تترددُ إلى بوليسِهم السري ؟. فاغرورقَتْ عينا ” أبو نارة ” بالدمعِ . – اسمحْ لي يا سيدي أن أتوبَ على يديكَ ، وأغسلَ روحي ، وأتخلصَ من أقذاري ، لقدْ هجرني النومُ منذُ معركةِ خربةِ غازي واستشهادِ أخيكَ ، فأنينُ من وشيتُ بهم يصمُّ أذنيَّ ويطاردُني ، ونظراتُ الاحتقارِ تنهشُ جسدي ، وقدْ سكنتْ في عيونِ أطفالي ، وتصرخُ أمُهم في وجهي : إن رائحةَ الخيانةِ تفوحُ منك .. بشرفي وبهذا الشاربِ لن أخذلَك . – ماذا تستطيعُ أن تفعل ؟. – متى جئتَ إلى هذا المقهى ستجدُ الطريقَ إلى نجاتِكَ ، فأنا أرى المتصرفَ يمرُّ يومياً أمامَ المقهى عائداً إلى البيتِ الذي يقيمُ فيه . 4 غادرتُ الدفترَ ويومياتِه ، وتركتُ الطلابَ يلوحون بقبضاتِهم الصغيرةِ باتجاه مكتبِ المتصرف ، وروادَ المقاهي على الأرصفةِ ، وخيرو الشهلةَ يطفئُ نارَه بالصبر ، لأنَّ تنهداتٍ عطرةً داهمتْ غرفتي ، فيمَّمتُ بعينيَّ إلى شجرةِ الأكاسيا الحُبلى بعناقيدِها الثلجية ، وقدْ اشرأبتْ بأغصانِها من النافذةِ ، تأكلُها الغيرةُ في هذا اليوم ، ومسحتُ براحتيَّ أغصانَها ، واحتضنتُ بحنوٍ عناقيدَها المتسللةِ إلى الغرفة ، وتتاوهنا عن النطقِ ، وحدثتُ نفسي : – هلْ يعشقُ الشجرُ ويموتُ كما يعشقُ الإنسانُ ويموت ؟. ثم خزَّنتُ في صدري عطرِها . 5 رجعتُ إلى يومياتِ مدرسِ التاريخ فقرأتُ : بعدَ ظهرِ اليومِ الثاني تقدمتْ سيارةُ المتصرفِ تتهادى كعادتِها من السرايا إلى ساحةِ الشهداء ، يواكبُها بعضُ الجنود ، وما كادتْ تصلُ إلى مقهى السقا حتى انقضَّ باشقِ ملثمٌ ، وأطلقَ طلقتين في رأسِ المتصرفِ أمامَ ذهولِ مرافقيه ، فهبَّ روادُ المقهى ، وأعاقوا بأجسادهِم وبالكراسي والطاولاتِ الجنودَ الفرنسيين ، وكانَ أبو نارة في صدرِ المقهى ، قد أزاحَ الخزانةَ الخشبيةَ عن بابٍ يفضي إلى خانٍ خلفَها ، ثم أعادَها بعدَ مرورِ الفتى الملثم . دوَّى في سورية خبرُ اغتيالِ المتصرف بحمصَ ، فأججَ ثوارُها مواجهاتِهم لجنودِ المحتلِ ، وحاصرَ الجنودُ حيَّ جورةِ الشياحِ بحثاً عن خيرو الشهلة فلمْ يجدوه ، لأن ” أبو شام مسعود ” ذاكَ العتالُ العملاقُ خرجَ به في صندوقٍ خشبي أمامَ أعينِ قوى الاحتلال إلى حيِّ بابِ الدريب . كتبتُ في الدفترِ: عندما طلبَ وفدُ رابطةِ المحاربين من زوجةِ خيرو الشهلة ” المسدسَ ” قالتْ :- منذ سنين قايضتُه بكيسٍ من الطحين .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى