في موازاة الاندفاعة التركية نحو التطبيع مع نظام الأسد، تقوم أنقرة من جهة أخرى بحملة دبلوماسية نشطة تجاه إفريقيا والبرازيل، وربما تختتمها في واشنطن في الزيارة المزمع القيام بها من جانب وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو في 17 كانون الثاني/يناير.
ولعله لم يعد خافياً على أحد أن تركيا تواجه في الوقت الراهن جملة من التحديات، أبرزها مسألتان: الأولى هي الاستحقاقات الانتخابية في حزيران/يونيو، وهذا ما يجعلها تحث الخطى وتسابق الزمن لتحقيق ما يمكن تحقيقه من منجزات سياسية على المستوى الخارجي، من شأنها أن تستثمرها في العملية الانتخابية، فضلاً عن بعض المبادرات الاقتصادية على المستوى الداخلي كرفع أجور العاملين في الدولة وتخفيض الضرائب البنكية وسوى ذلك.
أما المسألة الثانية فتتجسّد بالتحدّي القائم تجاه وجود قوات سورية الديمقراطية (قسد) التي جسّد بقاؤها على الحدود الجنوبية لتركيا حرجاً كبيراً لحكومة حزب العدالة والتنمية، وخصوصاً في ظل التلويح التركي الدائم بعملية عسكرية قيامها مرهون بجملة من التوافقات الدولية، لم تتمكن أنقرة حتى الوقت الراهن من تحقيقها. وحيال هذا الاستعصاء الدولي الذي يجعل حكومة أنقرة تبحث عن بدائل سياسية عن العمل العسكري، كانت الانعطافة تجاه نظام بشار الأسد وبدفع روسي واضح، أملاً في تحقيق هدف مزدوج يكمن جانب منه في تشكيل تحالف تركي أسدي ضدّ قوات قسد، موازاة مع تحقيق تسوية بين نظام الأسد والمعارضة السورية، يدفعها إلى ذلك ثقتها الكبيرة باحتواء المعارضة السورية وعدم خروجها عن السياق السياسي للأهداف التركية.
ولكنّ هذا المسعى التركي الذي ينبثق عن نزعة رغبوية أكثر مما ينبثق عن حسابات دقيقة للوقائع، لن يخرج عن كونه بحثاً عن المخارج في الوقت الضائع، بل ربما غدا ضرباً من المغامرة، لسبب جوهري يكمن في تجاهل أنقرة للدور الأميركي الذي لا يزال يحتفظ بكل قوة حضوره في المشهد السوري، وذلك على الرغم من عدم انخراط واشنطن بشكل مباشر في المسألة السورية، ولئن تذرعت تركيا بالقول: ما الذي فعلته واشنطن حيال القضية السورية خلال عشر سنوات مضت؟ على حدّ تعبير وزير الخارجية التركية، فالجواب هو أن الانكفاء الأميركي عن إيجاد حل للقضية السورية كان السمة الأساسية لسياسة واشنطن حيال القضية السورية، ولكنها تستطيع أن تعطّل أي حلّ أو مبادرة أخرى إن كانت لا تتوافق مع مصالحها أو تهدد حلفاءها في المنطقة، ويمكن الإشارة بإيجاز شديد إلى أهم البواعث الأميركية لتعطيل أي مسعى أو مبادرة مشتركة بين موسكو وأنقرة:
أولاً، لعله من الصحيح أن التدخل الروسي المباشر في سوريا كان بتفويض أميركي/أوروبي، وصحيح أيضاً أن الغرب الأميركي والأوروبي لم يعبأ بمجمل الجرائم التي ارتكبها الروس بحق السوريين، ولكن واشنطن ومن خلفها أوروبا، لم تسمحا حتى الآن لروسيا بأن تحصد ثمن انتصاراتها العسكرية في سوريا، إذ إن المسعى الروسي الدائم نحو الاستثمار بإعادة اللاجئين وإعادة الإعمار لا يزال يواجه رفضاً غربياً على العموم، ولعل هذا يؤكد استمرار الرؤية الأميركية التي لن تتيح المجال لفلاديمير بوتين بفرض أي حلول تستبعد الجانب الأميركي، أضف إلى ذلك أن الغزو الروسي لأوكرانيا جعل من محاصرة بوتين سياسياً واقتصاديا هدفاً غربياً ليس في سوريا فحسب، بل في أماكن كثيرة من العالم.
ثانياً: تُحكم الولايات المتحدة يدها على شطر كبير من الجغرافية السورية، بل لعله الشطر الأكثر أهمية من الناحية الاقتصادية، وذلك من خلال استمرار التنسيق بينها وبين أداتها التنفيذية قسد، وتوفير الحماية والدعم الكامل للحفاظ على كيان ما يُدعى ب”الإدارة الذاتية)، ولئن انتهت الحرب على داعش، إلّا أن استمرار السيطرة على الشطر الشرقي لسوريا المتاخم للعراق، يُعدُ أحد استراتيجيات واشنطن في مواجهة المدّ الإيراني الذي يتخذ من شرق سوريا مرفقاً حيوياً له.
ثالثاً: لعل الاستجابة التركية للدفع الروسي باتجاه نظام الأسد، ومن ثم إقامة تسوية سياسية في سوريا تفضي إلى إعادة مشروعية نظام الأسد وتجاهل حقوق السوريين وتضحياتهم، وكذلك تجاهل المضامين التي نصت عليها القرارات الأممية، إنما هي خطوة سوف تستعدي ملايين السوريين على أنقرة، يكفي الإشارة إلى أكثر من أربعة ملايين في الشمال السوري، فضلاً عن مجمل القوى الوطنية والسياسية السورية التي لا ترى في الائتلاف ومشتقاته سوى أداة تنفيذية للسياسة التركية.
رابعاً: في حال أصرّت أنقرة وموسكو على إقامة تسوية سياسية في سوريا بعيداً عن المدن والبلدات التي تسيطر عليها واشنطن من خلال حليفتها قسد، فإن هذه التسوية لن تكون سوى تعزيز لتكريس أو شرعنة تقسيم سوريا، وعندئذ يكون من حق الجميع أن يتساءلوا: أين هو شعار “الحفاظ على وحدة سوريا”، إذ طالما تصدّر هذا الشعار جميع بيانات أستانة؟.
الساحة السورية تحتمل أن تناور فيها جميع القوى المتداخلة، ولعل الولايات المتحدة التي تُظهر عدم المبالاة بالملف السوري، ستغض الطرف عن تدخل الجميع، والسماح لهم باللعب في فضاء جيواستراتيجي محدد، وتحقيق بعض المكاسب التكتيكية، دون الخروج عن النسق العام للسياسة الأميركية ورؤيتها للحل النهائي في سوريا، وبعد استنزافهم جميعاً ستجهض جميع التفاهمات الثنائية والثلاثية وتحبط كل خطوات التطبيع والتقارب مع النظام، من خلال تطبيق قانون قيصر المجمد حالياً لحين الطلب، وقانون توسيع الولاية القضائية للمحاكم الأميركية، بالإضافة الى قانون الكبتاغون الذي تم اعتماده مؤخراً في ميزانية وزارة الدفاع ووقع عليه الرئيس الأميركي جو بايدن والذي اعتبر ان تجارة الكبتاغون المرتبطة بنظام بشار الأسد تشكل تهديداً أمنياً عابراً للحدود.
المصدر: المدن