تكثر، منذ أيام، تأكيدات الجهات المعارضة السورية، ومنها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، التزامها بمبادئ الثورة وثوابتها، وذلك في حملة مضادة لمواجهة مسار التطبيع التركي مع نظام بشار الأسد الذي وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكثر من خطاب ب “القاتل”، داعياً إلى ضرورة تنحّيه من قيادة سورية، ما ينبئ بأن تخوّفات المرتبطين بالسياسات التركية قد تلزمهم أو تدفعهم إلى اتخاذ خطوات تُجاري التطبيع المحتمل، الذي بات قاب قوسين أو أدنى، رغم محاولات تخفيف وقْعه على المسامع الدولية بوصفه مسار سلام ينشط من خلاله مساري جنيف وآستانة اللذين اعتراهما الصدأ فتوقفا عن إنتاج ما سمّيت آنذاك عملية السلام.
التطبيع الذي تسعى إليه تركيا مع النظام السوري، عبر مراحله السابقة واللاحقة، غير مفاجئ، وغير سرّي، على الأقل لجهة الائتلاف السوري منذ بدأ مسار أستانة (2017)، وقبول تركيا أن تكون طرفا مكملا لثلاثيتها، إلى جانب روسيا وإيران الداعمين الأساسيين للنظام، وإلزام “أطراف في الإئتلاف” أن يكونوا طرفاً مقابلاً لوفد النظام على طاولة مفاوضاتٍ تنزع عن مفاوضات جنيف، التي ترعاها الأمم المتحدة واحدايتها الشرعية، أو تقلل منها، وهي المتوافق أنه تتساوى على أساسها الأطراف السورية من المعارضة والنظام. ويعني هذا أن إعطاء “الائتلاف” مؤشّراتٍ على استهجانه خطوات تركيا ليست واقعية، ولا تستطيع منحَه أسهما شعبية بعد أن استنفذ فرصا كثيرة، وصنع جدارا بينه وبين سوريين كثيرين، عبّروا عن موقفهم منه بمظاهراتٍ ترقى إلى أن تكون شبيهة مظاهراتهم ضد استبداد النظام ذاته، وأن ربط موقفه من تطبيع تركيا الدولة ذات السيادة بتصريحاتٍ حول تمسّكه بثوابت الثورة يوحي وكأن هذه الثوابت حاصل علاقة “الائتلاف” بالسياسة التركية، وليست هي سابقة عن “الائتلاف” وعن وجوده أساساً، ما يقلّل من مصداقية التمسّك بمبادئ الثورة ليس تطبيع تركيا مع النظام السوري، وإنما ترجيح مصالح الأشخاص داخل “الائتلاف” على مصالح السوريين، والقبول بما كان سبباً في تراجع أهمية الحلول على أساس القرارات الدولية، ومنها قرار مجلس الأمن 2254، وإحاطتها بدوامة المسارات من آستانة إلى سوتشي.
لم تصنع الثورة فصائل وأدوات حرب ضد النظام السوري، وكانت في مسارها الحقيقي ثورة سلمية، تنادي بحقوق مشروعة أقرّ بها النظام بداية، ثم واجه تلك المطالب بالرصاص والقنابل والبراميل المتفجّرة. صحيح أن الجيش الحر من المنشقّين حاول حماية المتظاهرين، وسعى إلى تخفيف قيود النظام عن مناطق المعارضة، لكنه بقي في حدود المهمات الدفاعية، ولكن من واجه النظام بالسلاح هي الفصائل المدعومة من الدول التي تروّج الآن للتطبيع معه، ما يعني أن صانعي الحرب هم أدوات نزع فتيلها، والسلاح الذي انتزع سيادة نظام الأسد من مناطق سورية، هو الذي سلّمها لسيادات عديدة، تركية وأميركية وروسية وإيرانية. وبالتالي، عندما يريد أصحاب القرار (وهم كثر) إعادة تسليمها للنظام السوري سيكون على أدواته السماع والطاعة، وهو ما سيكون في الأيام المقبلة، ما لم تفطن تركيا لمعاني التصريحات الأميركية وتحذيراتها من التقارب مع نظام الأسد، ومضت في مغامرتها التي سمّتها صناعة السلام في المنطقة، في خطوةٍ معاكسة تماماً لخطواتها في قيادة الصراع المسلّح المعارض للنظام.
لم تُنتج 12 سنة من الصراع في سورية، برعاية مباشرة من روسيا لجهة النظام السوري وتركيا لجهة “معارضة” مدعومة من اسطنبول، وهم “أطراف صنع السلام” الحالي، أي حلول، بل أسهمت في رفع فاتورة الثورة من الضحايا، قتلى ونازحين ومهجّرين ولاجئين وخراب مدن وتدمير اقتصاد، وتقسيم جغرافي وتغيير ديمغرافي، وتعدّد سيادات على أرض سورية، ونشوء كانتونات، ما يفيد بأن بقاء تركيا في مواجهة النظام لم يغيّر معادلات الصراع لمصلحة الثورة، ولم تكن عامل دفع باتجاه الضغط لإلزام الأسد على قبول الحلول السياسية، سواء لمصلحة من هم تحت عباءتها كمعارضين، أو تغيير موقف النظام السوري من شروط التفاوض مع تركيا كدولة، ما يجعل أسباب تخلّيها عن سياستها العدائية للنظام خارج الصندوق السوري، سواء نظرنا إليه بحسن نية أو سوء تقدير، فهو ملف تركي بحت، يبدأ وينتهي من مصالح تركيا، سواء كانت هذه المصالح داخل الحدود التركية، أو خارجها في سورية وصولاً إلى الحدود مع العراق.
بواقعيةٍ، علينا أن نتقبّل أن الثورة السورية ليست نقطة المركز في المفاوضات بين الدول، بغضّ النظر عن رأينا في هذه الدولة أو تلك، سلبا أو إيجابا. أيضا، ليست الثورة في مطالبها المحقّة ومبادئها العادلة على خريطة قيم التعاقدات في المصالح الاقتصادية والسياسية بين الدول. لذا، بقاء السوريين يحاكمون قرارات الدول على مسطرة مطالبهم لن يقدّم لهم إضافة جديدة في سجلّ ثورتهم، أو في سجل تغيير واقعهم إلى نحو أفضل.
باختصار، واقع الشعب السوري، أي الحرمان من حقوق المواطنة ومن الحريات، وحفظ الكرامة، هو ما دفعه إلى الخروج على النظام، قبل الموقف التركي من ثورته. وبغضّ النظر عن موقعها اليوم من النظام، وكذلك موقف أي دولةٍ أخرى. لذلك ما زال هذا المطلب مشروعا وعادلا، من زاوية مصالح الشعب السوري عموماً، المعارض أو الموالي، الآنية والمستقبلية. أما المعارضة، فالأوْلى بها أن تراجع تجربتها، وهذا ينطبق على المعارضة “الرسمية” وعلى كل تيارات المعارضة، وأن تصحّح مسارها، وليس أن تقيّم مسارات الدول، فالثورة الحقيقية ليست ملكاً للدول، ولا تتبع مواقفها المتحوّلة، ومن يختصرها في تركيا، فتركيا قالت كلمتها. وكلمة السوريين تبقى هي الميزان.
المصدر: العربي الجديد