تنظيم القبيسيات بعد غياب “الآنسة” الأولى

إبراهيم الجبين

النموذج الذي قدمته القبيسي لن يرحل برحيلها
لم يكن مستغرباً أن تكون الجهة التي تعلن، صباح الإثنين، عن رحيل منيرة القبيسي، مؤسسة جماعة القبيسيات النسوية المغلقة، هي وزارة الأوقاف السورية، على الرغم من إعلان الجماعة من جهة، والمؤسسات الرسمية للنظام السوري من جهة ثانية، طيلة الوقت عن عدم وجود صلة بين القبيسيات والنظام وأجهزته.

ما فعلته القبيسي لم يكن له مثيل في الدول العربية، أن تستنسخ تجربة الجماعات الدينية المعروفة، ولكن بصيغة نسوية مغلقة، وأن تقوم بتوظيفها لأهداف لم تكن تخفي أغلبها، إلا أنها تكتّمت على أهمّها وأكثرها خطورة، وهي العلاقة التي جمعت الأجهزة الأمنية السورية بهذه الجماعة وعناصرها، والدور الذي كنّ يقمن به من داخل بيوت السوريين.

حفظ الدين، وتقاليد المجتمع المحافظ، والتمسّك بالهيئة والشعائر الإسلامية السنية التقليدية لدرجة التشدّد، كانت هذه هي مهام القبيسيات ورسائلهن منذ أن ظهر التنظيم بشكل سرّي وخجول بداية في ستينات القرن الماضي، إلى أن تعاظم دوره في العقود التالية.

ولئن كان من السهل اتخاذ مواقف نقدية ضد رجال متشددين دينياً، فإن الأمر يزداد صعوبة في حالة النساء، فالمرأة المتشددة تقوم ببث تأثيرها في عمق الأسرة، ومع الأطفال والدوائر الدقيقة في المجتمع، ناهيك عن تأثيرهن على أزواجهن إن كانت مهامُهنّ موجّهة مدروسة بعناية.

تنظيم معقّد

نفوذ القبيسيات اتسع بشكل كبير، مصطدماً مع طبيعة النظام السوري، ومع مراكز قواه وأجهزته
هناك اعتقاد سائد أن الصدام ما بين النظام السوري والإسلاميين اقتصر على مشكلته مع جماعة الإخوان المسلمين وحدها، وأن هذا الصدام يعود فقط إلى مطلع الثمانينات وأحداث حماة الدامية التي راح ضحيتها أكثر من 30 ألف مدني، بعد اجتياح المدينة وتدميرها وارتكاب مجازر فيها مشابهة لتلك التي سيراها العالم لاحقاً بعد العام 2011.

والحقيقة أن مشكلة النظام بدأت منذ وصول حزب البعث إلى السلطة بانقلاب العام 1963، وحينها كانت أولى مشكلاته هي التخلّص من ضغط الإسلاميين، سواء كانوا ضمن جماعة دينية من جماعات الإسلام السياسي، كالإخوان، أو في مدارس دينية اشتهرت بها بلاد الشام ولم تكن تقرب السياسة، إنما كانت تعمل في المجتمع مركزة على ظواهره ومتغيراته.

اختار البعثيون حينها الشيخ أحمد كفتارو حليفاً لهم، من بين الأوساط الدينية السنية، وأطبقوا الخناق على معارضيهم سواء كانوا من الإسلاميين أو من اليساريين، وسرعان ما أصبح كفتارو مفتياً مزمناً للجمهورية ليتمكن النظام من السيطرة على من هم خارج الأطر الحزبية، لكن هذا وحده لم يكن كافياً.

اجتماعات القبيسيات تقام للذكر والحديث وقراءة القرآن الكريم، وقد وضعت لهن المؤسسة تقاليد شملت حتى الملابس التي تعني تدرّج النسوة في المراتب القيادية

في ذلك الزمن ظهرت القبيسي، التي ولدت في العام 1933، ودرست العلوم الطبيعية، قبل أن تلتحق بجامع” أبي النور“، والتقرّب من الشيخ كفتارو، عارضة أن تقوم بدورها الدعوي” المستقل“لحماية القيم الإسلامية السنية من التآكل.

لم تنتظر القبيسي طويلاً، فقد بدأت بالتعاون مع صديقتها فائزة جبريل شقيقة القيادي الفلسطيني الموالي للنظام السوري أحمد جبريل، بتأسيس أولى حلقات تنظيمها السري، وكانت مهمة كفتارو تأمين حماية هذا التنظيم من أيّ ملاحقة أمنية أو تدخل في نشاطه الذي استهدف الشابات المسلمات السوريات بهدف تجنيدهن في هيكل وضعته القبيسي لقيادة التنظيم، وباتت تعرف باسم ”الآنسة منيرة“.

ومن موقعها كمدرّسة للعلوم في مدارس دمشق تمكّنت القبيسي من استثمار احتكاكها اليومي مع الطالبات في سن المراهقة فما فوق، مدعّمة حضورها وشخصيتها بالدور الدعوي الذي قالت: إنها نذرت نفسها له. ومع ذلك فقد تعرّضت للتحقيقات والتوقيف لفترات بسيطة في عقد الستينات، لينتهي هذا كله بمظلة منحها إياها كفتارو.

وخلال عشرية السبعينات، التي عاد النظام واصطدم فيها مع المجتمع عندما رفض علماء دمشق هيمنة الأسد الأب، فكانت القبيسي تعمل بصمت من خلف هؤلاء، فأصبح تنظيمها شبكة واسعة تضم زوجات رجال الدين ورجال الأعمال وأعيان المجتمع وحتى كبار المسؤولين وبناتهم وشقيقاتهم.

بديل عن الدعاة

الحلقات الأولى للتنظيم أسستها القبيسي بالتعاون مع فائزة شقيقة الفلسطيني أحمد جبريل
تغيّرت حياة المسلمين السنة في سوريا، بعد أحداث حماة، وبعد أن أطلق يد قائد سرايا الدفاع رفعت الأسد شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد باستهداف المحجبات في شوارع دمشق وكشف رؤوسهن، عند تلك اللحظة عرضت القبيسي على المفتي كفتارو أن تقوم بدور موازٍ وبديل عن دور أولئك الدعاة الذين يقبعون في السجون أو تم نفيهم خارج سورية، حتى لا يبقى المجتمع بلا سقف. فوافق على تقديم المزيد من الدعم لها، وانطلقت في مرحلة جديدة أكثر إثارة.

درست القبيسي جيداً كيف تتحول السلطة السورية، وكيف تغيّر موازين القوى فيها، وحين عرفت أن الاتجاه يميل بعيداً عن كفتارو، نحو شخصية جديدة سيوكل إليها النظام مهمة قيادة الرأي العام الإسلامي السني في البلاد، وأعني بذلك الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، انقلبت القبيسي على كفتارو نحو مظلة البوطي. وكما رافقت القبيسي كفتارو، وهو يصعد فارقته حين بدأ نجمه يأفل.

استهدفت القبيسي بالدرجة الأولى نساء دمشق، عبر تشكيل حلقات للذكر والحديث وقراءة القرآن الكريم، ثم ما لبثت أن وضعت لهن تقاليد شملت حتى الملابس، معطف أزرق وحجاب أحمر، معطف أسود وحجاب أسود أو أزرق، وكل تلك الألوان تعني تدرّج النسوة في المراتب القيادية داخل التنظيم.

القبيسي ظلّت تعمل بصمت من خلف بناتها، فأصبح تنظيمها شبكة واسعة تضم زوجات المشايخ ورجال الأعمال وأعيان المجتمع وحتى كبار المسؤولين وبناتهم وشقيقاتهم.

أما الأفكار التي حملها التنظيم، فهي لم تخرج عن العقيدة الأشعرية التي آمن بها كفتارو ومن بعده البوطي، وأهم ركيزة فيها عدم الخروج على الحاكم، مهما بدر منه، أو بصورة أخرى عدم التدخل في السياسة.

والمحتوى الفكري كان في غالبيته مستوحى من الفكر الصوفي النقشبندي الذي كان كفتارو شيخ طريقته الأعلى. بالإضافة إلى قواعد في السلوك والأخلاق والمعاملات، وعلاقة المرأة بالرجل، وصلت إلى حدود قصوى حين بدأ رجال دمشق يشتكون من زوجاتهن القبيسات، وكانت تلك الشكوى تعني أن هناك سلطة كبرى في البيوت تُمارس لبرمجة سلوك الرجل والأسرة.

كل تلك اللقاءات كانت تجري بشكل سرّي، أو كانت تأتي تعليمات الآنسة منيرة أن يعطى ذلك الإيحاء للمنتسبات إلى التنظيم. وفيما كان البوطي يمنح القبيسيات غطاء أكثر قوة عند السلطة، كان نشاط التنظيم يمتد ليصل إلى ما هو أبعد من دمشق، وأبعد من سورية، نحو بلدان عربية عديدة، مثل لبنان والأردن والخليج العربي وحتى كندا وبلاد المهجر. فتم افتتاح فروع للقبيسيات ومدارس خاصة تتبع لهن بتمويل سخي.

تبادل مصالح

دراسة القبيسي لتحولات السلطة السورية، جعلتها تنقلب على راعيها المفتي كفتارو نحو الشيخ البوطي، بمجيء بشار الأسد إلى السلطة، احتاج إلى التنظيم، بنفس الدرجة التي كانت القبيسيات في حاجة إليه فيها، فنشأت علاقة تبادل مصالح بين الطرفين يقودها البوطي، وتم السماح للقبيسيات بالخروج إلى العلن، وهي المرحلة التي احتفلت بها الآنسة منيرة، حين أعلنت لنحلاتها أن يخرجن من خلف الأبواب.

تضخّم نشاط القبيسيات واتسع نفوذهن بشكل كبير، الأمر الذي اصطدم مع طبيعة النظام، ومع مكوناته ومراكز قواه وأجهزته التي حاولت أن تقيم نوعاً من الاتفاق مع القبيسيات، مقابل تقديم خدمات عن الأماكن التي بوسعهن الوصول إليها ولم يكن باستطاعة عناصر المخابرات ذلك، البيوت البعيدة والأرياف والغرف المعتمة، ولكن وفي الوقت نفسه كانت تلك الأجهزة تضغط على القبيسيات عبر تسليط الإعلام ضدّهن، بل أكثر من ذلك تسليط الأعمال الدرامية السورية التي تناولت ظاهرة القبيسيات بالنقد الحاد وأظهرت أنهن خطر على المجتمع.

وتكاملت معادلة النظام بذلك، فهو الذي يريد أن يظهر بدور العلماني المحارب للتطرف أمام الغرب، وأمام الداخل هو الراعي لتقاليد المجتمع المسلم، ومن ناحية ثالثة يرفض انخراطه بعيداً في تلك التقاليد من أجل الحفاظ على حداثة المجتمع وحرياته. بينما كانت الآنسة منيرة تعاني من البقاء قادرة على المشي فوق هذا الحبال الصعبة، حتى جاءتها النجدة في العام 2011، حين وجد النظام نفسه في أمسّ الحاجة إلى دعم القبيسيات، فلم تتردّد زعيمتهن بتقديم التنظيم كله تحت تصرّف الأسد.

نشاط التنظيم يمتد ليصل إلى خارج سورية، نحو بلدان عربية عديدة، مثل لبنان والأردن والخليج العربي وحتى كندا وبلاد المهجر
كانت أولى تعليمات الآنسة منيرة لبناتها أن يرفضن ما سمّيت بالانتفاضة أو الثورة السورية، وأن يشتغلن بأقصى طاقتهن لدعم النظام وإبعاد الأجيال الجديدة عن فكرة التمرّد عليه، وكان
ثمن هذا الموقف تصدعاً أصاب التنظيم، فانشقت عنه العديدات، لكن انشقاقهن كان مأساوياً أيضاً، فارتباطهن كان طويلاً مع التنظيم، وعقوبة التمرّد على تعليمات المعلمة الأولى كانت تأتي من أجهزة النظام نفسه، فدفعت الكثيرات ثمن ذلك باعتقال أبنائهن وحتى بقتلهم في السجون.

أما غالبية القبيسيات فكانت مكافأتهن من نظام الأسد، حلّ الاتحاد النسائي السوري ”المدني“ وترك المجال أمام القبيسيات لفعل ما يرغبن بفعله تحت رعاية الأسد شخصياً هذه المرة، لاسيما بعد غياب البوطي، فقام باستضافة من سماهن بالداعيات مرات عديدة، وأوكل مهمة الإشراف عليهن لوزير الأوقاف الذي سارع بتعيين معاونة وزير له من أبرز قيادات القبيسيات.

غياب منيرة القبيسي قد لا يكون حدثاً عادياً أمام التنظيم الذي بنته بصورة مركزية شديدة الانضباط، وربما كان التنظيم ينتظر مثل هذا الحدث حتى يتفكك إلى تنظيمات، لكن بعد أن أصبح أفقه واسعاً جداً تجاوز حدود الدعوة وتأييد السلطة إلى بناء هيكل نسوي متعدد الجنسيات قد يعاد تكراره في بلدان عديدة. نموذج قدمته القبيسي ورحلت غير أنه لن يرحل برحيلها.

المصدر: نداء بوست

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى