سواء كان «حزب الله» يضغط على الزناد بنفسه أو يحرض الآخرين على القيام بذلك، فقد وصل تجاهله الفاضح للسلطة المدنية اللبنانية، والقانون الدولي، والخطوط الحمراء الإسرائيلية إلى مستوى متدنٍ جديد.
عندما لقي الجندي شون روني، البالغ من العمر 23 عاماً، مصرعه رمياً بالرصاص أثناء تعرّض سيارته التابعة للأمم المتحدة لهجوم في بلدة العاقبية اللبنانية الأسبوع الماضي، سرعان ما ظهر الرد المتوقع: نفى «حزب الله» تورطه في الهجوم، وأعلنت قيادته أن “الناس” مستاؤون من تنامي وجود الأمم المتحدة في الجنوب، بما في ذلك المنطقة التي قُتل فيها روني. وسارعت الحكومة اللبنانية إلى التستّر على الحادثة بأسرع ما يمكن وبأكبر قدر ممكن من الترتيب مع تجنب حدوث أزمة دولية. ولكن لا يمكن الكشف عن القصة الحقيقية وراء ما حدث إلا من خلال إجراء تحقيق دولي لا يطال هجوم 14 كانون الأول/ديسمبر فحسب، بل يبحث أيضاً في نمط العنف المتصاعد لـ «حزب الله» في الجنوب والانعدام التام لمساءلته عن مثل هذه الأعمال.
منذ تأسيسه عام 1982، تجنب «حزب الله» التحقيق أو الملاحقة القضائية على جميع جرائمه العديدة تقريباً في لبنان. وربما كانت المرة الوحيدة التي وجده التحقيق فيها مذنباً بحادثة كبيرة هي المحكمة التي أنشئت بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005، وحتى في ذلك الحين، استغرقت المحاكمات أكثر من عقد إلى أن انتهت، وفشلت في توريط قادة «حزب الله» في الجريمة. ومرت جميع الجرائم الأخرى دون عقاب، من بينها انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وهي كارثة لا يزال تورط «حزب الله» المحتمل فيها غامضاً إلى حد كبير بسبب الوتيرة البطيئة جداً للتحقيق الحكومي الذي عرقله الحزب مراراً وتكراراً. وقد تمكّن الحزب أيضاً من التهرب من المسؤولية عندما أخذ مناصروه الأمور على عاتقهم وهاجموا “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”) أو أهدافاً أخرى، على الرغم من أن أفعالهم مدفوعة بوضوح بالدعاية التي يروجها «حزب الله»، وتبقى بمنأى عن الملاحقة القضائية.
ويتزامن أيضاً توقيت الحادث الذي وقع في 14 كانون الأول/ديسمبر مع عمليات عدوانية أخرى ينفذها «حزب الله» في جنوب لبنان، ومن بينها أعمال استفزازية ضد إسرائيل. لذلك إذا نظرنا إلى هذه الأمور مجتمعة، نرى أن الحزب مصمم على إزالة أي عقبة، محلية كانت أم دولية، أمام وجوده العسكري الراسخ والموسع.
تكثيف المواجهة منذ آب/أغسطس
لا يشكل تصعيد «حزب الله» ضد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أمراً جديداً، ولكن الحزب أخذ يكثف رسائله العدوانية منذ أن مدد مجلس الأمن الدولي ولاية “اليونيفيل” لمدة عام آخر بموجب القرار 2650. ويمكن فهم مشكلة «حزب الله» الرئيسية مع هذا القرار من خلال فقرة وردت في البيان الصحفي الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة عن القرار في 31 آب/أغسطس، وجاء فيها: “يكرر المجلس أن «اليونيفيل» لا تحتاج إلى إذن مسبق أو إذن من أي شخص للاضطلاع بالمهام الموكلة إليها، وأنه يُسمح لها بإجراء عملياتها بشكل مستقل. ويدعو الأطراف إلى ضمان حرية حركة «اليونيفيل»، بما في ذلك السماح بتسيير الدوريات المعلنة وغير المعلن عنها”. وفي 10 أيلول/سبتمبر، رد المسؤول في «حزب الله»، محمد يزبك، على هذا البيان مصرّحاً أنه من الآن فصاعداً سيُعتبرون عناصر “اليونيفيل” قوات احتلال. ويمكن بسهولة الاستنتاج بأن طهران تشارك الحزب الشعور نفسه بما أن يزبك هو أيضاً ممثل رئيسي للمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، في لبنان.
ومنذ ذلك الحين، تصاعدت التهديدات وخطابات الكراهية والترهيب ضد عناصر “اليونيفيل”، خاصة بعد أن توصل لبنان وإسرائيل إلى اتفاق بشأن الحدود البحرية في تشرين الأول/أكتوبر. فمن وجهة نظر «حزب الله»، يعني هذا الاتفاق أنه تم تجنب الحرب مع إسرائيل في الوقت الحالي. وبغض النظر عما إذا كان هذا التقييم دقيقاً أم لا، فقد أعطى الضوء الأخضر داخلياً لكوادر «حزب الله» لتسريع جهودهم للتأهب العسكري وإحكام قبضتهم على الجنوب، وهي أهداف تتطلب احتواء “اليونيفيل” بقوة أكبر من السنوات السابقة.
تفاصيل مقلقة من الهجوم الأخير
سارعت “اليونيفيل” إلى اتهام «حزب الله» بالهجوم الذي أودى بحياة روني. ووسط الضغوط الخارجية الناجمة عن ذلك، أصدرت الحكومة اللبنانية تقريراً أمنياً يوثّق إصابة سيارته بسبع وعشرين طلقة نارية من عدة زوايا. وفي غضون ذلك، ووفقاً للمحطة التلفزيونية المحلية LBCI، “يبدو أن الرصاصة التي قتلت الجندي الأيرلندي قد دخلت من باب السيارة الخلفي الذي كان مفتوحاً أثناء إطلاق النار”. ويشير ذلك إلى أن المهاجمين بذلوا جهداً لفتح السيارة المحطمة وإطلاق النار عليها من مسافة قريبة، أي أنهم، بعبارات أخرى، قتلوا روني عمداً.
ووفقاً لصحيفة “نداء الوطن”، دفعت هذه الأدلة المسؤولين اللبنانيين إلى التواصل مع [قيادة] «حزب الله» للتأكيد على أن “القضية أصبحت محرجة” لبيروت دبلوماسياً، ويجب الإسراع في إيجاد “مخرج مناسب لها” قبل وصول لجنة حكومية إيرلندية إلى لبنان في 19 كانون الأول/ديسمبر. وبعد ذلك، كشفت بعض التقارير أن مسؤولاً أمنياً رفيعاً في «حزب الله» عقد اجتماعاً عبر “زوم” مع قائد في “اليونيفيل” لم يُذكر اسمه من أجل التوصل معه إلى الصيغة الأنسب لإغلاق القضية. ووفقاً لـ “نداء الوطن”، “أعاد… المسؤول الأمني في «حزب الله» التأكيد على أنّ الحزب حريص على الحفاظ على علاقات جيدة مع “اليونيفل” وأنه لا علاقة له بما حدث في بلدة العاقبية”. ورد قائد اليونيفيل بعد ذلك: “إذا لم تكونوا مسؤولين مباشرة عن الحادثة، فأنتم مسؤولين عن إثارة البيئة الشعبية في الجنوب ضدنا”. وبالفعل، هذا الجو العدائي آخذ في التفشي بين شريحة كبيرة من سكان الجنوب. فقد اتهم العديد من السكان المحليين جنود حفظ السلام التابعين لـ “اليونيفيل” بأنهم إسرائيليون. كما هددهم البعض باستخدام العنف.
لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو حقيقة أن المخابرات العسكرية اللبنانية تمكّنت من الكشف عن هوية اثنين من المشتبه بهم في إطلاق النار وفقاً لبعض التقارير، ولكن لم يتم القبض على أي شخص أو تسليمه إلى السلطات. وعادةً ما يظهر هذا النوع من قطع الاتصال عندما يحاول «حزب الله» حماية مجرم.
كما ذكرنا سابقاً ، تورّط «حزب الله» في العديد من الهجمات ضد “اليونيفيل” على مر السنين، وكانت كل حادثة تُنسب عادة إلى “الناس” وتحمل رسالة موجهة إلى المجتمع الدولي. وكان أعنف هجوم هو تفجير موكب في حزيران/يونيو 2007 قُتل فيه ستة جنود إسبان. وشملت الهجمات البارزة الأخرى تفجير موكب أيرلندي عام 2008 وتفجيرين في عام 2011: أحدهما ضد وحدة إيطالية والآخر ضد وحدة فرنسية. كما ألقى «حزب الله» اللوم على “الناس” في أعمال العنف والمضايقات المستمرة التي كانت تتم على نطاق أصغر ضد مواكب “اليونيفيل” على مر السنين، والتي غالباً ما كانت تتخللها إتلاف معدات “اليونيفيل” أو مصادرتها. ولكن يبدو أن الحزب تعمّد تجنب المزيد من عمليات القتل بعد عام 2007، وحتى الآن.
الخطوط الحمراء المحلية والسياق الإيراني
فضلاً عن توجيه «حزب الله» رسالة قوية إلى “اليونيفيل” والمجتمع الدولي، كان الحزب منشغلاً أيضاً على الحدود مع إسرائيل، ولا سيما في بلدة رميش المسيحية. فهناك، اندلعت التوترات بين السكان المحليين والجمعية البيئية المفترضة التابعة لـ «حزب الله» “أخضر بلا حدود” بعد أن قررت الميليشيا مصادرة بعض أراضيهم لبناء الطرق. فحاول أبناء البلدة إقناع الجمعية بوقف المشروع إلى حين يتم التوصل إلى حل، لكن سلطات «حزب الله» تجاهلت مناشداتهم وأبلغت أصحاب الأرض أن أراضيهم تقع في منطقة حدودية استراتيجية، وبالتالي يجب مصادرتها لأغراض عسكرية، علماً أن شيئاً لم يتغير رسمياً على تلك الحدود منذ الحرب مع إسرائيل عام 2006.
ونتيجة لذلك، توجه أهالي رميش إلى الحكومة والجيش اللبناني، مطالبين الدولة بالحفاظ على حقوقهم، وإعطاء الأمر للمستولين على ممتلكاتهم بإخلائها، وردع أي طرف يحاول منعهم من العمل في أراضيهم. لكنّ أحداً لم يتحرك.
وحتى الآونة الأخيرة، كان «حزب الله» والدولة الإيرانية الراعية له أكثر حذراً بشكل عام إزاء “اليونيفيل” (وبشكل أساسي تجاه وحداتها الأوروبية)، مع إبقاء مضايقاتهم للقوة ضمن حدود متحفظة. وكان الغرض المفترض من هذا النهج المدروس هو تجنب أزمة كبيرة مع المجتمع الدولي، والتي قد تؤدي إلى قيود أو عقوبات كبيرة من جانب أوروبا. إذاً، لماذا ابتعد «حزب الله» وطهران على ما يبدو عن مسار هذه السياسة مؤخراً؟
قد يكون أحد التفسيرات لذلك هو الاحتجاجات الحاشدة التي تشهدها إيران، والتي حولت الرأي العام الدولي بشكل أكثر حدة ضد الجمهورية الإسلامية. فقد يكون التصعيد في لبنان طريقة طهران و«حزب الله» لتحذير أوروبا لتخفيف مثل هذا الضغط. والجدير بالذكر أن تقارير إعلامية محلية تشير إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ألغى رحلة كان مخططاً لها لقضاء عطلة عيد الميلاد مع الوحدة الفرنسية في “اليونيفيل” في جنوب لبنان.
الخاتمة
يتماشى التصعيد الحالي ضد “اليونيفيل” مع تكتيكات «حزب الله» منذ الثمانينيات، وتحديداً ميله إلى التفاوض من خلال العنف، سواء كان ذلك على شكل عمليات خطف أو اغتيالات أو حتى حروب. واليوم، أصبح أكثر من 10 آلاف جندي من 48 دولة رهائن لـ «حزب الله» وإيران، وسيظلّون كذلك ما لم يتم إجراء تحقيق جاد وشفاف للكشف عن منفّذي هجوم 14 كانون الأول/ديسمبر ومحاكمتهم. وبما أن القضاء اللبناني مفضوح تماماً في الوقت الحالي، إما بسبب الفساد أو ضعف المؤسسات، فإن التحقيق الدولي وحده هو الذي سيفي بالغرض إذا كان مدعوماً بضغوط دبلوماسية جدية لإرغام السلطات المحلية على التعاون.
وتشكل مأساة روني أيضاً فرصة جيدة لتقييم كيفية تعامل المرشح الرئاسي الحالي الأوفر حظاً في لبنان، قائد الجيش اللبناني جوزيف عون، مع هذه القضية إذا تم انتخابه من قبل البرلمان. أي أنه إذا سَمح لـ «حزب الله» بالإفلات من العقاب بصفته الحالية كقائد للجيش، سيعرف المجتمع الدولي كل ما يحتاج إلى معرفته حول ما ستكون عليه رئاسته. فالقائد الذي لا يعرف قيمة المساءلة والسيادة لن يُخرج لبنان أبداً من انهياره المستمر.
حنين غدار هي “زميلة فريدمان” في “برنامج السياسة العربية” التابع لمعهد واشنطن ومؤلفة “أرض «حزب الله»: رسم خرائط الضاحية والجماعة الشيعية في لبنان”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى