كعب آخيل التركي

علي العبدالله

للمرّة الثانية خلال أقل من عام يعلن النظام التركي نيّته شنّ عملية عسكرية برّية على مواقع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال سورية وشمال شرقها، تنفيذاً لخطته إقامة منطقة أمنية على طول الحدود التركية السورية بطول 590 كيلومتراً، وعرض 30 كيلومتراً، من دون أن ينجح في الحصول على موافقة أميركية أو روسية للعملية العتيدة.

استثمر النظام التركي التوتر الدولي الذي أثاره العدوان الروسي على أوكرانيا، وتهديده الأمن والاستقرار الأوروبي والدولي، وموقع تركيا الجيوسياسي وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الضغط على طرفي الصراع، على الغرب عبر تعزيز علاقاته السياسية وتعاونه الاقتصادي مع روسيا، بما في ذلك عدم التزام العقوبات المفروضة عليها، والتلويح بعرقلة انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، وعلى روسيا عبر تعزيز تعاونه العسكري مع أوكرانيا ومدّها بأسلحة متطوّرة، من مسيّرات بيرقدار وسفن وطرّادات بحرية وذخائر، واستثمار نجاحه في عقد اتفاقية تصدير الحبوب من أوكرانيا وروسيا. والضغط على الطرفين بمطالبتهما بتنفيذ بنود اتفاقات عام 2019 معهما، التي قضت بإبعاد قوات “قسد” عن الحدود مسافة 30 كيلومتراً، للحصول على ضوء أخضر لخطّته شنّ عملية عسكرية برّية على ثلاث مناطق تسيطر عليها “قسد”، تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني)، على طريق إقامة المنطقة الأمنية المذكورة، أو استدراج عروض أميركية وروسية تحقّق له بعض مطالبه. يمكن اعتبار حديث الإدارة الأميركية ودول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي عمّا يواجهه النظام التركي من تحدٍّ إرهابي، وتضامنهم معه وتحرّك واشنطن لتعزيز دور العرب في “قسد” وإدارة منطقة شرق الفرات؛ وإقرار روسيا بوجود أخطار تهدّد الأمن القومي التركي على حدودها مع سورية، ودعوته إلى التعاون مع النظام السوري لمواجهة هذا التحدّي، “سكاكر” ترضية، بحيث يستطيع الزعم أنه حقق إنجازات على طريق هدفه الرئيس: المنطقة الأمنية.

لم تثمر مناورات النظام التركي، فالتصعيد العسكري التركي الذي رافق التحرّك السياسي والدبلوماسي للحصول على الضوء الأخضر استثار ردود فعل ميدانية من الولايات المتحدة وروسيا وإيران، تمثلت في تحذيرات صريحة ومباشرة بشنّ العملية العسكرية وبإرسال تعزيزات عسكرية كبيرة، روسية وإيرانية ومن النظام السوري، إلى خطوط التماس مع المناطق الثلاث المستهدفة تركياً. وقد أقامت روسيا قاعدة عسكرية جديدة في قرية تل جيجان، ضمن مناطق انتشار “قسد” وقوات النظام في ريف حلب الشرقي، وإعلان مطالب روسية بالمقابل، كانت بنوداً في اتفاق سوتشي الروسي التركي الموقع يوم 17 سبتمبر/ أيلول 2018، وخصوصاً الفصل بين الفصائل المعتدلة والمتشدّدة وإبعاد الأخيرة، هيئة تحرير الشام بشكل خاص، عن خطوط التماسّ بعد نزع أسلحتها الثقيلة من دبابات وصواريخ ومدافع هاون وإقامة منطقة منزوعة السلاح على جانبي خط التماسّ بعرض 15 كيلومتراً وفتح طريقي حلب – اللاذقية وحلب – حماة، ورفع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، سقف المطالب الروسية من النظام التركي بمطالبته بتحييد الفصائل المسلحة الرافضة للحوار مع دمشق، التي تشمل دائرة أوسع من الفصائل المتشدّدة، وتعزيز القوات الأميركية حضورها العسكري قرب خطوط التماسّ والبدء بإقامة قاعدة عسكرية قرب مدينة الرقّة وتسيير دوريات مشتركة مع “قسد” تمتد من غرب الرقّة إلى الحسكة. لقد وضع النظام التركي، بتحرّكه العسكري والسياسي، إصبعه تحت ضرسي موسكو وطهران، بإعادة فتح ملف الجماعات المتشدّدة في الشمال الغربي السوري إلى الواجهة، وفتح الباب لمساومات جديدة محرجة، بما في ذلك دعوته إلى الانسحاب من الأراضي السورية، من جهة، وزاد في توتر علاقته مع الإدارة الأميركية، من جهة ثانية.

حاول النظام التركي ابتزاز طرفي الصراع عبر استثمار أوراقه وتوظيفها معهما، حيث لوّح للتحالف الغربي بما يستطيع القيام به في الملف الأوكراني، دعم أوكرانيا عسكرياً، وتوظيف علاقاته بالطرف الروسي لمواصلة تنفيذ اتفاقية تصدير الحبوب والحدّ من حدّة أزمة الغذاء العالمية، والعمل على توفير غاز روسي للدول الأوروبية بعد وقف أوكرانيا تصديره عبر أراضيها، وتوقف خط نورد ستريم 2، والتوسّط بين روسيا وأوكرانيا من أجل وقف الحرب والذهاب نحو حل سياسي، وتمرير قرار الموافقة على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو. ومع الطرف الروسي بتوفير رئة للاقتصاد الروسي، عبر عدم التزام العقوبات الغربية وتوسيع عمليات التبادل التجاري والتوسّط في تسويق الحبوب والغاز الروسيين ونقلهما إلى الأسواق، فلدى تركيا بنية تحتية تؤهلها للعب دور مركز عالمي لتسويق الغاز ونقله، لديها سبعة خطوط لنقل الغاز المسال، سبق لها تحقيق نجاح في تحييد السعودية والإمارات ووقف معارضتهما له في سورية ووقف دعمهما “قسد” عبر الانخراط في مصالحة معهما، لكنه لم يحصل على الضوء الأخضر المطلوب لتنفيذ عمليته العسكرية، فلجأ إلى مناورات سياسية مركبة، مع الغرب بإعلان عدم تنفيذ السويد لشروطه بوقف دعم المنظمات الإرهابية، المقصود هنا المنظمات السياسية الكردية، وتسليم المطلوبين ورفع حظر بيع الأسلحة عنه، ما يثير قلق دول “الناتو” إزاء عدم موافقته على انضمام السويد إلى الحلف، ومطالبته بمساعدة دول حليفة، (دول الناتو) في مواجهة الإرهابيين، ومع روسيا بدعوتها إلى عمل عسكري مشترك في شمال سورية وشمال شرقها، ورفع سقف استعداداته لتنفيذ الرغبة الروسية بالانفتاح على النظام السوري، والانتقال من الحوار الأمني إلى الحوار السياسي عبر اقتراح خطة من ثلاث مراحل: لقاءات على مستوى قادة أجهزة المخابرات تليها لقاءات سياسية على مستوى وزراء الدفاع والخارجية، تختم بلقاء سياسي على مستوى قادة روسيا وتركيا وسورية.

وقد زاد الطين بلة استثارة تحرّكه لمصالحة النظام السوري رد فعل الحاضنة الشعبية للثورة السورية التي رأت في هذا التوجّه بيعاً لقضيتها والدفع من حسابها والتضحية بأمنها واستقرارها، في حال الاتفاق على تسليم الشريط الحدودي، حيث تقوم مخيمات النازحين، للنظام السوري، وكان قد استفزّها بعمليات الترحيل القسري للاجئين والضغط على فصائل المعارضة المسلحة للتجاوب مع خطط ثلاثي أستانة وبرامجه، فأُطلقت الاعتراضات والدعوات إلى التظاهر والاعتصام في مدن الشمال السوري وبلداته.

عكس إخفاق النظام التركي في الحصول على ضوء أخضر لعمليته العسكرية حساسية توازن القوى القائم في شمال سورية وشمال شرقها ودقته في ضوء التنافس الجيوسياسي المحتدم في الإقليم بين قوى إقليمية ودولية وتداخله مع ملفاتٍ دولية ساخنة، ما جعل المحافظة على الوضع القائم هناك مصلحة حيوية لأكثر من طرف إقليمي ودولي، من جهة، وموقع “قسد” في حسابات قوى إقليمية ودولية منخرطة في الصراع على سورية، من جهة ثانية، فـ”قسد” بالنسبة إلى الولايات المتحدة رأس حربة في ممارسة الضغط على النظام السوري، وبالنسبة إلى الأخير وإلى إيران شوكة في خاصرة تركيا، وبالنسبة إلى روسيا ورقة في المساومات مع النظام التركي.

كعب آخيل النظام التركي ونقطة ضعفه القاتلة كامنان في طبيعة تقاطعات المصالح ومحصلتها الختامية، فالقاعدة الحاكمة لحالة التقاطع تقول بميل المحصلة لمصلحة الطرف الأقوى، كذلك إن وجود ثغرات أو عوامل ضعف في بنية الدولة والنظام يجعل خسارة الطرف الأضعف في هذا التقاطع أكبر. وما يزيد من تعقيد الموقف حالة عدم الثقة السائدة بين النظام التركي وطرفي الصراع الدولي في أوكرانيا. فالولايات المتحدة لا تثق بالنظام التركي على خلفية التحولات الأخيرة في سياساته واستغلاله الظرف للضغط على حلفائه من أجل مصالح ذاتية تتعارض مع استحقاقات التحالف القائم، وروسيا لا تثق به وتتعامل معه حسب الملف والظرف المتحرّك. هذا بالإضافة إلى دور كل من النظام السوري و”قسد” في فرملة حركة طرفي الصراع نحوه. فالنظام السوري لا يريد تسهيل حركة النظام التركي، فيتشدّد في مطالبه لتحقيق المصالحة، جدول زمني لانسحاب قوات تركيا من الأراضي السورية بضمانة روسية وإيرانية، و”قسد” تتقرب من روسيا والنظام السوري للضغط على الإدارة الأميركية لدفعها إلى رد حازم على أي خطوة تركية ضدها، خصوصاً أنّ النظام التركي يصعّد عسكرياً ويظهر حماسة واستعجال مصالحة النظام السوري تحت ضغط الوقت، على خلفية اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وسعيه لسحب ورقة اللاجئين من أيدي المعارضة التركية من دون اهتمام بمستدعيات الظروف التركية الداخلية، حيث الأزمة الاقتصادية والتضخّم الكارثي يطرحان حاجة أكثر إلى التهدئة والاستقرار لجلب مستثمرين وسياح، هذا بالإضافة إلى أن الدخول في حربٍ سيستنزف الكثير من السيولة النقدية المتوافرة ويحرم خططاً وبرامج تنموية منها.

لم يبق أمام النظام التركي سوى خيار واحد: تعزيز وحدة الشعب التركي وتصليب بنية الدولة عبر إعادة النظر في سياسته الداخلية والعودة عن توجهاتٍ قادت إلى إحداث تشقاقات في جدار هذه الدولة (مركزة القرار الوطني بيد الرئيس والممارسات التسلطية وقمع حرية التعبير وملاحقة الصحافيين والتمييز العرقي والقومي)، وتبنّي سياسات منفتحة وتشاركية، كان حزب العدالة والتنمية الحاكم قد تبنّاها بين عامي 2005 و2015، والتوجّه نحو دولة الكل الوطني والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات والإقرار بحقوق الأعراق والقوميات غير التركية من أجل تعزيز التماسك الوطني وتمتين اللحمة الوطنية، وتقوية موقف النظام في وجه الضغوط الخارجية، فالمشكلة والصراع مع كُرد تركيا بدأت هناك، في الداخل التركي، وتنتهي هناك، بحل وطني توافقي يرضي الكل الوطني التركي.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى