يعتقد الكثيرون أن الوسيلة الوحيدة التي يستخدمها المستبد لتثبيت حكمه ومنع خصومه من منافسته على موقع القرار، ومنع الجماهير من محاسبته، هي القوة الغاشمة والترهيب والعنف المفرط الذي يتم عبر أجهزة قمعية تدين له بالولاء بسبب وجود عصبة طائفية أو قبلية أو أيديولوجية تربط هذه الأجهزة بالمستبد أو بسبب الفتات الذي يتركه لها مقابل قمعها للجماهير. بدون شك أن هذه الوسيلة هي الأداة الأهم بيد المستبد لتثبيت دعائم حكمه لكنها ليست الوحيدة. يمكن للمستبد أن يحكم بالقوة والترهيب وكم الأفواه لفترة ما، ولكن لا يمكنه أن يستمر بذلك طويلًا دون حدوث انفجار شعبي يقلب الطاولة على وجهه، لذلك فهو بحاجة بعد قوة السلاح والترهيب إلى قوة الفكرة. قوة الفكرة هي التي تضمن للمستبد وورثته الاستمرار طويلًا في الحكم. من أجل ذلك يلجأ النظام المستبد لتسريب ونشر أفكار تحمي سلطته وتدفع الناس للتمسك بها وأحيانًا الدفاع عنها. من أمثال هذه الأفكار :
فكرة أنه ضمانة لأمن المجتمع وأن موته أو استبعاده يعني الفوضى العامة في المجتمع.
فكرة أن لا بديل يمكنه القيام بذات المهام التي يؤديها الحاكم الحالي.
فكرة أنه يسعى جاهدا لتحقيق أهداف استراتيجية ستعود بالخير على البلد ..
فكرة أنه محترم وعادل ومن حوله يستغلون مناصبهم ويستعبدون الناس دون علمه أو رضاه.
فكرة وجود عدو خارجي أو داخلي سينقض على البلد والناس بمجرد سقوط هذه الحاكم.
فكرة أن كل محاولات الانقلاب على المستبد مصيرها الفشل. وهكذا.
إن تسريب مثل هذه الأفكار وتكريسها كجزء من الوعي الجمعي للجماهير لا يقل أهمية عن تسريب بعض مشاهد التعذيب والتعنيف والقوة التي يمارسها المستبد لضمان سيطرته على الحكم، وربما يكون لها من الأثر على ضبط الجماهير ما يفوق أثر الترهيب، إذ تتحول الجماهير حينها من موقع الضحية التي تتربص بجلادها إلى موقع السور الذي يحميه.
ولأن النخبة المثقفة على الأغلب لا تمتلك من القوة ما يوازي قوة المستبد، لا بد لها من الاستفادة من قوة الفكرة لكي تناور وتتحرك ضمن هذه المساحة منعًا لسيطرة المستبد على أفكار الناس. الفكرة هي سلاح الجماهير الواعية الأهم. أن تستخدم الهامش المتاح لنشر أفكار تقيد الاستبداد وتعيق حركته وتكشف ممارساته أمام الجماهير وتعري زيف الأفكار التي يحاول من خلالها أن يحمي حكمه واستبداده فأنت دون ريب تمارس نوعًا من المقاومة الناعمة الواعية للظلم والاستبداد. من مهام المثقفين في أي مجتمع يرزح تحت الاستبداد العمل على تشكيل منظومة فكرية مقاومة لمنظومة المستبد، ولا يجوز للمثقفين أن يهملوا سلاح الفكرة ويقللوا من أهمية قوتها وخاصة أنها السلاح الوحيد الذي يمكنهم من خلاله وضع حد أو على الأقل عرقلة مشروع الاستبداد المزمن. كما لا يجوز للمثقفين أن يصابوا باليأس السريع لأن الأفكار تحتاج إلى وقت طويل وبيئة مناسبة لكي يظهر أثرها المطلوب. إن للأفكار تأثيرًا تراكميًا، يبدأ كنسمة وينتهي كإعصار . إنه سحر الأفكار وقوتها الكامنة .
المصدر: اشراق