تعليقاً على مقال الأخ الدكتور محمد حبش الذي نشر في فبراير من العام الماضي على موقع يكيتي ميديا بعنوان: كردستان….درس التاريخ وفرصة المستقبل”
المقال أرسله لي أخ عزيز، ورغم أنه ليس مقالا جديدا،- وأنا أعتذر أني لم اطلع عليه في حينه – ، لكني رأيت أهمية إبداء الرأي فيما حواه من أفكار، وذلك للحضور المستمر والمتصاعد للقضية الكردية، ثم لمكانة الكاتب في مسار هذه القضية ودوره وأفكاره في الفضاء والحراك الاسلامي المعاصر. وكذلك لمكانته في المعارضة السورية.
لم يعط التاريخ درسا ذا قيمة لما بات يعرف باسم ” القضية الكردية”، إلا الدرس الذي يؤكد على أن الأكراد جزء أصيل، ومكون طبيعي من مكونات الحضارة العربية الإسلامية، ومن التكوين الاجتماعي العربي الإسلامي، ومن التشكيلات السياسية التي أفرزتها المراحل المتعددة التي مرت بها المنطقة والأمة العربية الاسلامية، وفي هذا المسار لا يبقى هناك قيمة فعلية للحديث عما كان يفعله صلاح الدين، أو ابن الأثير. وابن الصلاح، وغير هؤلاء كثير جدا، سواء كانت جذورهم كردية أو أمازيغية، أو كازاخية، أو أذرية …الخ.
فهولاء الأعلام في السياسة والقيادة والعلم، هم مساهمون حقيقيون في إشادة الحضارة العربية الاسلامية، والحياة العربية الاسلامية التي كان شعارها وقوامها “(لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى) -رواه الإمام أَحمد -.
ويصبح كل حديث عن حياة خاصة كردية أو غير كردية لهؤلاء الأعلام، حديث أحلام لم يطلع عليه أحد، أو لم يظهر له أثر يعتد به في حياتهم، وحياة مجتمعاتهم الخاصة إن صح أن كان لهم مجتمعات خاص، كما يوحي مقال الدكتور حبش..
وحديث التاريخ الذي يحمل قيمة حقيقية يقول لنا إن هؤلاء كانوا مدافعين حقيقيين وبكل ما ملكوا من علم ومعرفة عن العربية وعلومها، وكل ما يقوم بشأنها، وأن عددا من ألمع أعضاء مجمعات اللغة العربية في العصر الحديث في مصر والشام أصولهم كردية.وهم لم يعتبروا هذه الأصول مما يحول وهذا الدور الذي يقومون به، وبالمقابل لم يعرف لهم دور في انبات أو تعزيز أو تنمية “لغة كردية”،أو خصوصية كردية على أي نحو تجلت هذه الخصوصية.
هذا تعليقا على درس التاريخ، وقبل الحديث عن المستقبل لابد من الوقوف على درس الحاضر. وهو يشمل اللحظة الراهنة، والتاريخ القريب الملموس، والمستقبل القريب المرئي بوضوح:
** تؤكد هذه اللحظة الراهنة والمشاهدة أن الدعم الحقيقي “للقضية الكردية” يأتي من الأعداء الحقيقيين لهذه الأمة: الأمة العربية الإسلامية، وفي مقدمة هؤلاء الحركة الصهيونية وكيانها، والغرب الاستعماري ودوله، وليس فيما يقومون به انتصار لحق يروه في هذه القضية، وإنما محاولة لتخليق قضية بهدف ايجاد أدوات تمزيق لأمتنا تكون عونا للكيان الصهيوني، ولتحقيق الأهداف التي وجد هذا الكيان لتحقيقها، ومن هذه الزاوية تكون “القضية الكردية” مماثلة ل “القضية الأمازيغية”، من حيث التخليق، والتوظيف، والاستهداف.
** كذلك فإن في هذه اللحظة الراهنة – الحاضر -، تأتي ممارسات قادة الحركة الانفصالية الكردية لتقدم لنا نموذجا يتماهى مع النموذج الصهيوني من حيث الاحتلال للأرض، وتهجير أهلها، واستخدام الارهاب وسيلة لذلك، وحرق المحاصيل الزراعية ، وإقامة سلطة مستبدة طاغية، لا تقيم أي وزن لأي مفهوم من مفاهيم حقوق الانسان، وهي تعمد إلى تصفية قيادات كردية تعتبرها خطرا على منهجها الانفصالي. وتقوم بتزوير الجغرافيا فتطلق أسماء لمناطق ومدن وبلدات ما عرفت مثل هذه الأسماء في أي مرحلة تاريخية، والمثال الفاقع والمتداول في هذا المقام إصرارهم على تسمية “عين العرب، أو عين عرب” باسم “كوباني”.
ورغم كل ما تقوم به هذه القوى الانفصالية العنصرية لم تستطع بعد الاتفاق على جغرافية وحدود ما تدعوه ب “كردستان”، وحين تبحث عن خارطة لهذا المسمى تجد تناقضات لا يمكن إخفاؤها، إذ كلما وضعت هذه القوى يدها على منطقة ذات أهمية اقتصادية ( منطقة ثروات طبيعية)، أو ذات أهمية استراتيجية ضمتها إلى كردستان التي تتخيل.
** أما الحديث عن “فرصة المستقبل”، كما جاء في عنوان المقال، فإن هذه الفرصة غير مفهومة، أو لنقل إن الباحث الجاد، أو المراقب النزيه لا يجد لها إلا أحد سبيلين:
** إما أن تقوم هذه الفرصة على هدم، وتقسيم الدول الأربعة القائمة الآن وهي: سوريا والعراق وتركيا وايران، من أجل إقامة كيان “كردي”.
والتقسيم في هذه الحالة لن يكون بين الأكراد وغيرهم من أهالي هذه الدول، وإنما سيكون تقسيم متتال، وقد ألمح المقال إلى المكونات السورية الأخرى، فإذا كان من حق الكرد كيان مستقل لهم، فسيكون هذا حقا للجميع، جميع المكونات، أي أن حالة تشظي كاملة ستحدث في هذه المنطقة، وهذا مسار قاتل للجميع، بل إنه سيمثل دمارا لخارطة العالم القديم كله، وللسلم والأمن الدوليين، ولن يقف هذا المسار عند حد معين.
وقد يرى البعض أن تصورنا لهذا المسار فيه مبالغة، لكن التدقيق فيما يجري يظهر أن العمل على هذا المسار يجري على قدم وساق تحت مسميات عديدة.
** وإما أن يكون كل حديث عن حقوق أو تطلعات منضبطا بقاعدة “وحدة كل دولة من دول المنطقة”، ومعززا لهذه الوحدة، ومستندا إلى الارادة الحرة لأبنائها، وفي إطار ما يؤكده ويعززه المسار التاريخي للمنطقة وشعوبها، في دوائر هذا التاريخ نفسه، وهي دوائر حضارية عربية وإسلامية متفاعلة ومتداخلة.
وفي هذا المسار – وهو المسار الوحيد البناء- يصبح الحديث عن “فرصة، أو فرص” المستقبل مفهوما، ويصبح مطلوبا ووجبا البحث عن رفع الظلم عن كل المكونات الوطنية. وايجاد الأطر الكفيلة بتنمية هذه المكونات تنمية تتيح للوطن كله أن ينهض، دون أن تكون هذه التنمية غطاء وخطوة نحو الانفصال والتفتيت.
وما ورد في المقال من حديث عن الظلم الواقع على الاكراد فيستأهل التوقف والتعليق، وأنا هنا لا أنفي وقوع هذا الظلم، لكني لا أجعله واقعا خاصا بالأكراد، من حيث كونهم أكرادا، لكني أضعه في سياقه التاريخي، والاجتماعي، والجغرافي، وفيغطار تحليل النظم القائمة والختلاف التنمية بين الريف والمدينة، بين الجبل والسهل، بين البادية والمناطق الحضرية، كذلك فإن الظلم والتهميش لم يكن للأكراد فقط، لكنه كان لكل مكونات الوطن:
الاستبداد والطائفية والفساد هي مولدات هذا الظلم، والسلوك المستند إلى هذه العناوين تغلغل ـ نتيجة تصحير الحياة السياسية الوطنية على مدى زاد عن نصف قرن ـ في كل مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية السورية، وإذا ضربنا مثلا في النظام القائم فإن القوى التي شاركت وقاسمت هذا النظام ودعمته في ممارساته، كان فيها من كل مكونات هذا الوطن، كان فيها كرد. كما كان فيها عرب، وكان فيها سنة كما كان فيها علويون وكان فيها مسلمون كما كان فيها مسيحيون، ووقف رجال دين من جميع المكونات مع هذا النظام، كما وقف آخرون منهم ضد هذا النظام.
وقبل هذه المرحلة المختلة من الحياة السورية كان الكرد كغيرهم من مكونات المجتمع السوري مشاركون في الأحزاب الوطنية، وفي الثورات الوطنية، وفي الحكومات المختلفة، وفي الانقلابات العسكرية، ترأسوا حكومات سورية، وقادوا قطعات عسكرية سورية، وكان لهم الحضور المهم في التصدي للانقلاب الذي فصم الوحدة “السورية – المصرية” التي أقامت “الجمهورية العربية المتحدة” عام 1958، وشاركوا بفعالية في الحركات والأحزاب الوحدوية التي قامت تواجه الانفصال، وكانوا في مواقع قيادية فيها.
** ومن منظور الوضع في سوريا، فإن معالجة القضية الكردية يجب أن تتم في إطار الوطن السوري، والوطنية السورية، وأن تكون هذه المعالجة صادقة، وواضحة، وبناءة، وعلى هذه القاعدة يمكن الاستجابة، ويجب الاستجابة لكل مطلب للمكون الكردي يعالج التخوفات ويتصدى للمظالم، ويعزز القيم التي تبني هذه الوطنية السورية.
وأول معاني الصدق في تبني مفهوم الوطنية السورية، الإيمان بأن الجغرافيا السورية جزء حاسم في مفهوم الوطنية السورية، فلا اخصاص لأي مكون من مكونات الشعب السوري في أي جزء من الأرض السورية.، الأرض السورية أرض واحدة تنقلا وعملا وتملكا.
الثقافة واللغة جزء من حقوق الانسان، لكن هذه الحقوق تتحقق وتمارس في إطار هذه الوطنية، فلا تقسيم إداري للوطن على أساس عرقي، أو أساس طائفي، أو على أي أساس يمكن أن يتولد عنه أو ينمو عنه وفيه وضعا انفصاليا.
الأمن القومي السوري واحد لا يتجزأ بجيشه وأجهزته، وبنيته، ومسؤوليه، وأي تصرف خلاف ذلك هو بمثابة إقامة بنى انفصالية إن لم تستخدم اليوم فسوف تستخدم غدا.
ليست المركزية في الحكم من مكونات الوطنية، والشعب السوري هو وحده الذي يحدد أنجع الطرق لتنمية المجتمع، ولتماسكه، ونموه. والشعب السوري هو الذي يحدد التقسيمات الادارية للجغرافيا السورية لكن هذا لتحديد لا يقوم على أساس عرقي او ديني او طائفي او ديني. وإنما على اساس مصلحة التقدم والنمو والعدالة.
وحين يتحقق للمواطنة السورية هذه الأسس وأمثالها، يكون الباب مفتوحا لكل تطوير مطلوب لتنمية سوريا والسوريين أيا ما كانت طرق اجتماعاتهم.
النظام السوري القائم لا يمكن مواجهته إلا بموقف سوري موحد، وللأسف فإن الانفصالية الكردية ممثلة بحزب الاتحاد الديموقراطيPYD)) نظير حزب العمال الكردستاني التركي PKK) )
طعنت الحراك الثوري السوري، ونكصت عن تعهداتها بأن تكون جزءا من ذلك الحراك الشعبي الوطني، وراحت تبني ” دولتها الخاصة”، حدود، ضرائب، سجون، برامج تعليمية، جيش، أجهزة أمن، تحالفات مع دول كبرى غازية، استيلاء على مصادر النفط واعتباره ملكية لها….. الخ.
ولعل من التكرار الممل القول أن تشكيلات قسد، ومسد، هي تشكيلات وهمية تحاول أن تستر الطبيعة العنصرية لذلك الحزب، وأنها اعتمدت بنصيحة مباشرة من القيادة العسكرية الأمريكية في المنطقة.
** لأسباب خاصة بي آلمتني كثيرا هذه الاستهانة والاستخفاف التي عرض فيها الأخ الدكتور حبش مفهوم العروبة باعتباره انتماء ثقافي وليس عرقي، حتى أوحى فيما عرض وكأن منبع هذا المفهوم هو الخديعة والتزوير، لتمرير العروبة على غير العرب.
ومثل هذا العرض فيه افتئآت على الإسلام، وعلى التاريخ، وعلى حقائق العلم، ولهذا السبب يتسأهل التوقف عنده.
فالموقف الإسلامي واضح في هذا الشأن، في القرآن، وفي السنة، وفي تاريخ دول المسلمين، صحيح أن الحديث المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أن العربية هي اللسان وأن من تكلم العربية فهو عربي، حديث ضعيف عند علماء الحديث، لكن دلالته ومتنه معتَمد باعتباره تطبيق لكتاب الله، ولجوهر دعوة الاسلام.
والحديث عن “اللسان العربي”، هو أبعد أثرا، من مجرد معرفة اللغة العربية، والدكتور حبش يعرف أكثر مني أن “معرفة” اللغة والتحدث بها، لا تستوعب معنى اللسان، فمعرفتك للفرنسية لا يجعلك فرنسيا، ومعرفتك للانكليزية لا يحولك انكليزيا، إن اللسان يعني بدقة “تلبس الحالة”، وليس مجرد معرفة اللغة، و”تلبس الحالة” يعني أن تصبح هذه اللغة سبيلك لفهم كل من وما حولك، وتصبح وعاءك الذي تفرغ فيه كل إبداعاتك، وتصبح الأداة التي تعبر من خلالها عن كل مرادك، والسبيل الذي تتفاعل فيه مع محيطك، وتدافع عنه، وتحرسه، وتنميه، يصبح تاريخ اللغة تاريخك، ومقامات اللغة وشجرتها مقامات وشجرة انتساب لك.
تلبس اللغة يعني باختصار أنك تصبح أنت اللغة المجسدة، أنت الكائن الحي الذي تجسدها.
وأعتقد جازما ومستندا إلى شواهد ابداعات وعطاءات أولئك العلماء والقادة الأفذاذ من ذوي الجذر الكردي كانوا يدركون هذا المعنى، وكانوا “متلبسين” بالكامل لهذا اللسان.
وإذ اختصت اللغة العربية بكونها لغة الدين وكتاب المسلمين المقدس على وجه الحصر والقصر، فعندها يتجلى الجانب المقدس من وجود هذه اللغة ومن ارتابط المسلمين بها.
وبهذا المعنى يصبح الدفاع عن هذه اللغة دفاعا عن النفس، قبل أن يكون دفاعا عن القوم.
فكيف لأحد منا خصوصا إذا كان له جانبا من العلم أن يستهين بهذا المعنى، أو يجرد الأمة منه.
** ثم إن إقامة مفهوم الأمة على أساس عنصري عرقي لم يعد له اعتبار في موازين العلم، ولم يعد يؤخذ به في اي دراسة جادة، بعد أن تبين أنه مفهوم قائم على أساس وهمي غير حقيقي، وقد دفعت البشرية أثمانا خطيرة نتيجة تسلل هذا المفهوم إلى عقلها السياسي، وفي سياق تاريخي محدد، فكان لديها، العنصرية البيضاء، والنازية، والفاشية، والصهيونية، والمركزية الأوربية، وكل هذه أبنية عدوانية لا أساس لها من علم، ولا سند لها من حقيقة. موضوعية.
وكان الواحد منا يظن أنه بسقوط العنصرية البيضاء من إفريقيا في العام 1991، لم يعد أمامنا إلا الحركة الصهيونية، ليتجاوز العالم تماما حقبة “العنصرية العرقية”، لكن واضح أن هذا كان ظنا، وأن هناك من يعمل ويجاهد لاستعادة هذا المعنى العنصري العرقي.
ونحن نخشى أن يدفع الانفصاليون الأكراد بالمكون الكردي إلى أتون هذا الوهم، وبالتالي يوقعون عليهم الثمن الباهظ وغير المجدي لمثل هذا النهج. وإذا قدروا على فعل ذلك، فإنهم يكونوا قد وجهوا طعنة شديدة للجسم العربي قد لا تقل شراسة عن تلك الطعنة التي نجمت عن وجود الكيان الصهيوني، لأن كل خسارة تصيب المكون الكردي في هذا الجسم العربي فإنها تصيب الجسم كله. تصيب كل مكونات هذا الجسم، وكل تاريخه، وقيمه، وعقيدته، الأمر هنا خطير وليس مجرد استحضار لعقائد وأديان قديمة كما اشار الدكتور حبش.
وكثير من اخوتنا النشطاء الأكراد باتوا يدركون خطورة الدفع بهذا المسار، وباتوا أيضا على قناعة، أن مثل هذا المسار يتضمن وبدقة الدفع لمغادرة المكون الكردي للانتماء الإسلامي الأصيل الذي عرف عنه، – وهو نفس مايروجه دعاة الانفصالية الأمازيغية -.
وهكذا تظهر العلاقة بين العروبة والاسلام، بين الدين الاسلامي واللغة العربية.
ومفيد أن يتذكر، من يريد أن يتذكر، أن هذين المكونين للأمة الوطنية والقومية : وهما العروبة والإسلام، هما اللذين استهدفهما الاستعمار الفرنسي في الجزائر لسلخها من وطنيتها ومن تاريخها، ومن قدرتها على مقاومة سياسة الفرنسة والإلحاق.
تاريخيا وراهنا تصدر الجزائريون من جذور أمازيغية جهود مواجهة هذا التحرك الفرنسي وكشف استهدافاته، وإعلان التمسك بشخصية الجزائر العربية الاسلامية.
مقال في منتهى المصداقية والموضوعية ، فهل يثوب الإنفصاليون بمختلف توجهاتهم السياسية او العنصرية العرقية إلى رشدهم ؟ !!!