ما بين وزارتَي المال والأمن القومي سيتحكّم اليمين المتطرف بالحكومة الإسرائيلية، مستحوذاً على ملف الاستيطان، ومنتزعاً صلاحيات من الجيش والشرطة لمصلحة ميليشياه أو “الجيش الخاص” به.
وفي مفاوضات الائتلاف رفع حزب “الصهيونية الدينية” السقف باشتراط “ضمّ الضفة الغربية” للمشاركة في الحكومة، وألحّ على حزب ليكود لإقرار مخططات الضمّ التي كان قد جمّدها سابقاً، بسبب اعتراض الإدارة الأميركية السابقة، كما قيل. والمتعارف عليه أن الإدارة الحالية أكّدت التزام هذا الاعتراض، غير أن واشنطن أحجمت دائماً عن إدانة عمليات الاستيطان غير المشروعة بموجب القانون الدولي، بل إن الإدارتين السابقة والحالية ضغطتا على السلطة الفلسطينية للحؤول دون تفعيل ملف الاستيطان أمام المحكمة الجنائية الدولية باعتباره سرقة للأراضي وجريمة ضد الإنسانية. وبذلك تكون واشنطن داعمة تاريخية للأحزاب الدينية الإسرائيلية التي تستعدّ الآن لخوض معركتها التاريخية من أجل شرعنة الاستيطان وتعميمه في كل الضفة الغربية.
ومع أن كل الحكومات راعت الاستيطان ووسّعته، بما فيها حكومة إسحق رابين عرّاب “اتفاق أوسلو” وغداة توقيعه في البيت الأبيض، إلا أن حكومة بنيامين نتنياهو باتت تُعَرَّف، حتى قبل اكتمال تشكيلها، بأنها “حكومة الاستيطان”، لكنها واقعياً حكومة الجهر بالفاشية والعنصرية. فللمرة الأولى يجتمع فيها الثلاثي الرافض “حل الدولتين” وكل مفاوضات مع الفلسطينيين: أقصى اليمين وعتاة المستوطنين والمتديّنين، ولذلك فإن أجندتها تطمح الآن إلى ما هو أبعد من الاستيطان، إلى تكريس الاحتلال وتوسيع رقعته، وإلى طرد فلسطينيي الـ48، لتصل على ما تسمّيه “أرض إسرائيل”.
هل يمكن الرهان على الإدارة الأميركية لتكون أكثر حزماً مع حكومة إسرائيلية متطرّفة، لمجرّد أنها متطرّفة، أو لأن غالبية يهود أميركا تؤيّد الحزب الديموقراطي ولا تدعم صعود اليمين الديني المتطرف بل تعارض، بحسب استطلاعات الرأي، توظيف المساعدات الأميركية في خدمة المستوطنات؟ طبعاً لا، فليس هناك أكثر تطرفاً من الاحتلال الاستعماري الذي تلقّى دعماً أميركياً غير منقطع، كما أن الأسباب التي تدفع بواشنطن إلى تمرير سياسات إسرائيل تبقى أقوى من أي إدارة، أياً تكن مواقف يهود اميركا، وحتى لو اضطرّت إلى العمل مع إرهابي موصوف ومدان مثل إيتمار بن غفير… وهل يمكن الاعتماد على الاتحاد الأوروبي لتعديل سياسات نتنياهو – بن غفير – بتسلئيل سموتريتش؟ أوروبا منشغلة حالياً بأمنها وبالتداعيات الاقتصادية لحرب أوكرانيا، وكانت قد برهنت في مراحل سابقة أنها لم تعد تملك تأثيراً في الشرق الأوسط… وهل يمكن توقّع موقف أو تدخّل عربي يجبر زمرة التطرّف الإسرائيلية على مراجعة حساباتها ومخططاتها؟ أكيد لا، إذ لم يعد للعرب زمام المبادرة في قضيتهم “المركزية”.
وحدها إيران تبدو جاهزة ومستعدة للانخراط في المعترك المقبل. فالمتطرفون الآتون إلى السلطة في إسرائيل يشبهون المتطرّفين في نظامها. سموتريتش من وجوه “فتية التلال” الاستيطانية، أو “إرهاب التلال” بتسميتها الشائعة، وأبرز أهدافه إقامة “دولة الشريعة اليهودية”. وبن غفير من أتباع مئير كاهانا الذي صُنّف تنظيمه “إرهابياً” في الولايات المتحدة، وأبرز أهدافه تهويد المسجد الأقصى. ونتنياهو يتغطّى بهذين الحليفَين المسعورَين ليبدو كأنه “المعتدل” في مسار التعصّب والعنف الذي يقودانه تحت رئاسته.
أما يائير لابيد، رئيس الوزراء المغادر، فلم يهتم سوى بسعي المتديّنين إلى قوننة الفصل بين الذكور والإناث للتساؤل “أين ليكود، لماذا هم صامتون؟” مستخلصاً: “نحن لسنا في إيران”! وأمّا بيني غانتس، وزير الدفاع المنتهية ولايته، فاستثاره تهميش الجيش والأمن لإنشاء “حرس حدود خاص ببن غفير”. هذا “الحرس”/ الميليشيا سيجري الاعتماد عليه ليكون أشبه بـ”الحرس الثوري” وفروعه العراقية واللبنانية لتأدية مهمات لا تقرّها الحكومات رسمياً، ولا يتولّاها الجيش ضدّ الفلسطينيين وعرب إسرائيل، أما الآن فسيصبح القرار عند الوزير بن غفير.
إذاً فنتنياهو “عائد… مع انتقام” علني وانقلابي، أولاً ضد خصومه المحليين معوّلاً على حلفاء أكثر تطرّفاً منه لتصدّر المشهد بالعنف الأمني والاستيطاني، ولتجريف يمين الوسط وما تبقّى من اليسار، ولمعاقبة عرب إسرائيل الذين دعم بعضٌ من ممثليهم في الكنيست الحكومة التي تولّت السلطة في غيابه. أما “الانتقام” من الإدارة الأميركية الحالية فلن يكون علنياً ولا انقلابياً، بل توريطياً، والمؤكّد أنه باشره جزئياً من خلال تركيبته الحكومية التي تمنح سموتريتش وبن غفير وآرييه درعي (شاس) الحقائب التي يريدونها والموازنات التي يطلبونها. لم يكترث نتنياهو للإشارات التي بعثت بها واشنطن راغبة في “حكومة وحدة وطنية” يبقى لابيد وغانتس في عدادها، وفضّل زعيم ليكود فرض إرادته تمهيداً لاستراتيجيتَين: أولاً، اللعب بمغامرات حلفائه لكسرٍ يريدونه نهائياً للقضية الفلسطينية، ولتحقيق ما نادى به الحاخام حاييم دروكمان، الأكثر نفوذاً في التيار القومي الديني: “لا مشكلة في وجود دولة شريعة. علينا العمل وفق ما يحدث في دولة يهودية”… وثانياً، لتنفيذ الوعيد الإسرائيلي بتدمير المنشآت النووية الإيرانية، ولا بدّ في هذا الشأن من جرّ أميركا إلى مواجهة لا تريدها، أياً يكن الحزب الحاكم فيها.
تطرّف مقابل تطرّف، هذه هي المعادلة/ التحدّي التي يفرضها صعود اليمين الديني المتطرّف في إسرائيل على السلطة بل على الشعب الفلسطيني في الضفة وغزّة ومناطق 48. لا ترى السلطة الفلسطينية نهجاً آخر غير “الاعتدال” و”المقاومة الشعبية”، غير أنها تعي جيداً أنه تآكل ولن يكون قادراً على مواجهة أي اكتساح استيطاني (بموازنات وتراخيص يوفّرها سموتريش)، أو أي توسّع في اجتياح المسجد الأقصى لفرض السيادة الإسرائيلية عليه بواسطة “الحرس” الجديد، كما يعتزم بن غفير. ثمة كارثة آتية، وبمنطق ديني متطرّف يتناقض كلياً مع أي منطق دبلوماسي مسالم انتهجه العرب ولا يبدون مستعدين أو قادرين على تغييره تلبيةً لاستغاثات السلطة الفلسطينية.
لن تلجأ هذه السلطة إلى إيران لنجدتها، ولا إيران تنتظر ذلك أو تتوقعه، فهي أنجزت إقامة “بنية مقاومة مسلّحة” في الضفة الغربية، معتمدة من جهة على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي التي ستبلغ أقصى وحشيتها في مرحلة قريبة، ومن جهة أخرى على إضعاف السلطة الفلسطينية وخياراتها بفعل العقم الأميركي – الأوروبي – العربي في التعاطي مع الشأن الفلسطيني. كل التقديرات التقليدية تتحدّث عن انتفاضة فلسطينية ثالثة، خصوصاً أن التوتّر بلغ أقصاه في الضفة، لكن إسرائيل كما إيران تتوقّع انتفاضة مواجهات مسلّحة يمكن التنبّؤ منذ الآن بمسارها وحصيلتها. لا تستطيع الجهات المعنيّة عربياً ودولياً، إذا كانت معنيّةً فعلاً، القول إنها لم تكن تعلم.
المصدر: النهار العربي