منذ دخول الأدوات والمناهج البحثية الكمية حقل العلوم الاجتماعية والطفرة التي شهدتها ابتداء من ستينيات القرن المنصرم، أضحت الاستبيانات واستطلاعات الرأي تخوض في قضايا وظواهر نوعية بالغة التعقيد مثل الهوية، في محاولةٍ لإيجاد علاقة سببية قابلة للفحص والتعميم بشكل يماثل أو يقترب من العلوم التطبيقية.
من دون الخوض في تفاصيل منهجية بحتة، تصدّت دراسات كمية كثيرة لسؤال جوهري، كيف يعرّف المواطن العربي نفسه؟ معظم هذه الاستبيانات كانت تُبنى على نمط أسئلة بسيطة، أو كما يسميها بعض الباحثين الأسئلة الغبية أو الخبيثة، من قبيل أن تسأل مواطنا مصريا السؤال الآتي، هل تعرّف نفسك بوصفك مسلما أم مصريا؟ أو أن تسأل سوريا عن هويته الأولى مع اختيارٍ من متعدد (مسلم، سوري، عربي، كردي).
وكما هو متوقع، فإن غالبية واضحة من المستجوبين سيعرّفون أنفسهم بهويتهم الدينية أو الإسلامية قبل الوطنية أو المناطقية، وهو ما دفع كثيرا من الباحثين الغربيين إلى إطلاق تعميمات خاطئة عن المجتمعات العربية بكونها تغلّب الدين على الهوية الوطنية التي تمثل أساس الدولة الحديثة، وعليه فإن الديكتاتوريات الحداثية أو الأنظمة التوتاليتارية، من وجهة نظرهم، هي الأنسب للتعامل معها ضمن علاقات دولية معقدة. لم يقتصر هذا التعميم المغلوط والخبيث في كثير من الأحيان على الباحثين الغربيين ونظرتهم الاستعلائية للمجتمعات العربية المدروسة، بل استخدمت هذه الاستبيانات من قبل حركات إسلامية وجهادية مغلقة لمحاربة الانتماء الوطني أو الدول القطرية وتأكيد المكانة العلوية في المجتمع والسياسة.
في الدراسات الحديثة، لم تعد للاستبيانات السابقة وأسئلتها الغبية أو الخبيثة صِدقيَّة علميَّة على الرغم من استمرار استعمالها والاستدلال بها وظيفيا في بعض الحالات ليس فقط لأن للإنسان هويات متعددة مركبة تتبدل وتتغير وفقا للظروف والتفاعل مع البيئة الخارجية ومتغيرات كثيرة مثل مستوى التعليم، والصحة، والرفاه..إلخ. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تكون سوريا وعربيا ومسلما وسنيا وحمصيا وشاميا وفلاحا وليبراليا سياسيا ومحافظا اجتماعيا في الوقت ذاته من دون أن تشعر بأي صراع مع ذاتك، بل لأنك تستطيع أن تحدد إطارك الهوياتي يوميا بناء على القضايا التي تثار كأن تكون مع نادي الكرامة أو ريال مدريد، ومع المطبخ الحلبي، ومع اللبس التقليدي، أو ضد فرض الحجاب أو خلعه دون أن تكون مضطرا لحصر نفسك ضمن ثنائيات.
لكن وجود هويات مركبة للفرد لا يعني من وجهة نظر بعض الباحثين أو السياسيين عدم وجود هوية مفضلة تعبر عن “إحساس واعٍ بالانتماء” وتقدَّم على ما سواها فهل أنت على سبيل المثال، مسلم عربي سوري، عربي سوري مسلم، سوري عربي مسلم؟
على وجاهة الطرح السابق فإنه يعدّ استمراراً للتضليل ومحاولات تسييس الهوية أو الهويات بدلا من اكتشافها، وهذا الأمر بحسب وجهة النظر المضادة تلك لا يتعلق بالجواب بمقدار ما يتعلق بالسؤال ذاته. للتغلب على هذه المسألة، يطرح عدد من الباحثين توجيه أسئلة تلامس أحاسيس المستجوبين من دون أن يفكروا ملياً بخطورة وعواقب أجوبتهم على مستقبلهم، ويضربون البطولات الرياضية وكرة القدم على وجه الخصوص أمثلة داعمة لتصوراتهم. فإذا لعبت تونس مع ماليزيا وسألت المتابعين العرب عن تفضيلاتهم، فلن تتفاجأ إذا جاءت الأغلبية لصالح تونس رغم أن ماليزيا دولة مسلمة وربما تطبق فيها قواعد وتعاليم الدين الإسلامي على مستوى المجتمع أكثر من تونس. ينطبق الأمر ذاته إذا لعب لبناني أو سوري مسيحي مع إندونيسي مسلم، فستجد الغالبية يشجعون اللبناني أو السوري لا الإندونيسي رغم أنه مسلم، ينطبق الأمر ذاته إذا لعب كردي من كردستان العراق مع كردي تركي أو حتى عربي تركي، فستكون النتيجة بلا مواربة عند العرب والكرد لصالح كردستان العراق. ولا نحتاج لكثير من الأمثلة الراهنة أكثر، فالتفاعل مع نتائج السعودية وتونس أمس في كأس العالم، والانحياز الوجداني لقطر ضد النهج الاستعلائي في ملف استضافتها دليل على انحيازات هوياتية واعية لدى الجمهور العربي جميعه.
قد يقول قائل: لماذا الاسترسال في هذه التفاصيل وكأننا نتحضر لمعركة هوية؟ والجواب عن ذلك أننا لسنا أمام معركة هوية، لكنْ ثمَّة مَن يحاول دائما تحديد وتعريف الهوية من منظوره الضيق ولمصالحه الحزبية والشخصية من خلال طرح ثنائيات ضيقة للانتماء الهوياتي ليحوّل المجتمع إلى جماعات متصارعة متناحرة بذريعة الدفاع عن الهوية أو تأكيدها ضمن صيغة معينة.
المصدر: موقع تلفزيون سورية