لقد أُتحِفت البشرية بعدد من الصيغ السياسية، آخرها الحرية السياسية، التي تُحقق للشعوب فضاءً للحرية والتعبير عن رغباتهم ومشاكلهم ومطامحهم لكن العالم يزداد رعباً، والحروب منتعشة ومستدامة والسيادة للعنف وليس للشعب، والدماء تسيل والتوقعات كارثية، وها هي مخيمات الشمال شاهدة على تلك الجرائم لروسيا وإيران وتابعهم النظام؛ فإن القوة والمال إلهان، والعالم محكومٌ بهذه الثنائية، والإنسان ضحية الإنسان، فالإنسانية كذبةٌ مغرية؛ والإنسانيون فعلاً قلة بريئة ونموذجية لكنهم عجزة، فضيلتهم أنهم يشكلون الضمير اليقظ في المسيرة البشرية، وإنهم الضوء الساطع الصغير بعتمة العولمة القديمة للامبراطوريات والعولمة الإمبريالية الصاعدة والاجتياحية ونتائج شموليتها، في أنحاء المعمورة، فثلث البشرية يجوع ويمرض ويموت، والأحياء الغلابة يعيشون على الفتات!
يمكن تصنيف الكارثة التي تعرضت لها سورية على أيدي آل أسد والمستمرة منذ بداية السبعينات، بما تضمنت من الكذب والتدليس فضلاً عن الخيانة وتنفيذ خطط الصهاينة والغرب بتوجيه وقيادة أميركية لا تخطئها العين، تصنف في مقدمة الكوارث الأكثر إيلاماً في التاريخ السوري خلال عدة قرون، ولا شك أن الخسائر بالأرواح جراء ممارسات النظام طيلة 50 عاماً ونيف، هي المأساة التي لن تعوض بالمطلق.
إن لتدمير الأرضية التي تساهم باستقرار الشعوب وتنميتها مكانته الهامة، ولا يدفع ثمنه المباشر من يعيشون اللحظة فقط، إنما يمتد أثره ويتفاعل وقد يصل لأجيال قادمة، وهذا ما نتج عن الحالة السورية التي تعددت فيها أوجه النكبة، الأمن الغذائي والمائي والاقتصادي والديمغرافي والتعليمي والدفاعي الذاتي والشامل. الخ لما لها- مجتمعة أو منفردة- من دور أساسي في تثبيت المجتمع واستقراره، إذ يحرُم الجوع والجوع المستتر الأفراد من الطاقة والمهارة اللازمتين للعمل المتقن والحياة الكريمة كما للماء والصحة والتعليم نفس الأهمية بالحفاظ على المجتمع ككل، وتوفر العلاج للأوبئة مثل الكورونا والكوليرا.
لقد كانت بعض المؤشرات قبل الثورة السورية متوفرة بشكل نسبي، على حساب كرامة الوطن والمواطن، المغلفة ببيئة فاسدة مُفسدة، تمارس السلطة بأشد أشكال الفاشية والاستبداد؛ وفي الظروف السائدة بعد 2011 من الاضطرابات المدنية والحرب على الشعب، والصراعات والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية والمفتعلة- حرائق للمحاصيل الزراعية والحيوانية والنفطية ومُصادرة قوت وحقوق الناس- كلها أدت، وتؤدي إلى تعقيد الجهود المبذولة للتعامل بفعالية مع الفقر المدقع، والحاجة الملحة للتغيير وإحقاق الحق، وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية فضلاً عن الأمن والأمان بالصحة والطاقة بمعناه الشامل.
وما يقال في هذا الجانب على المناطق السورية التي تسيطر عليها ميليشيا سلطة القهر والقتل والاستبداد، يقال أيضاً على سلطات الأمر الواقع بالشمال السوري وأغلبهم وكلاء لآل أسد، وأن الخلاف فقط بالدرجة، فالحاجة والحرمان وفقد الحرية والأمن والأمان، وتأزيم أكبر للواقع المتأزم والحلول القاصرة أصلاً متشابه تماماً؛ ومع ازدياد الواقع السوري تأزماً وتراجعاً في ظل تعنت نظام مُجرم قمع شعبه المطالب بالحرية والكرامة، وإصراره على التشبث بالحكم منتجاً أزمة وفوضى انعكست بظهور تنظيمات إرهابية مارست ذات القمع بحق الشعب الذي انتهى حاضره ويتهدد مستقبله في عدة مستويات.
لقد كان التعليم أبرز وأخطر الملفات التي طالتها تعقيدات ما بعد 2011، فتأثرت بشكل سلبي العملية التعليمية بعموم سورية خصوصاً في مناطق الشمال والشمال الشرقي من سورية، فأضحى لدينا اليوم أجيال كاملة شبه ضائعة؛ فارتفعت نسبة الأمية، وازداد التسرب من التعليم بحسب كل التقارير، سواءٌ بسبب تعطل المدارس وخروجها عن الخدمة، أو إحجام الأهالي عن إرسال أطفالهم للمدارس في ظل سيطرة منظمات إرهابية وانفصالية- داعش والعمال الكردستاني (حزب PYD) والنصرة.. الخ- على التعليم، مع الأدلجة المقصودة للتعليم وعدم توفير مادة علمية أو معتمدة يمكن أن يستفيد منها الطالب.
واعتباراً من هذا الشهر وبالتزامن مع اقتراب فصل الشتاء فإن السوريين يحثون الخُطى للحصول على مواد التدفئة شبه المفقودة، بجميع أرجاء سورية؛ ففي حين سيلجأ ميسورو الحال لشراء كميات إضافية من السوق بأسعار مضاعفة، سيزداد فيها ثمن ليتر المازوت المنزلي يوماً بعد يوم، وأن تراجع الوضع الإغاثي ودعم اللاجئين السوريين، للمقيمين داخل الأراضي السورية أو في بلدان اللجوء المجاورة (لبنان وتركيا والأردن والعراق)، يعود إلى تعفن الكارثة السورية وطول فترة المعاناة الشديدة والنهب والجرائم التي وصلت لاستخدام الكيماوي ضد الشعب منذ عام 2011، فضلاً عن التعفيش وسرقة أموال الناس، من دون أي حل سياسي في وقت يتزايد فيه العوز بين السوريين في مخيمات النزوح، مع تدني المساعدات الإنسانية القادمة لهم، إضافة لتفشي البطالة والفقر، خاصة في المخيمات التي تصل لحوالي 1500 مخيم، فإن أفرادها يعانون من فقدان ونقص حليب الأطفال والدواء والتعليم وكثرة الأمراض المُعدية والخطيرة ومحدودية العلاج، علاوة على انخفاض في مادة الدقيق وهو أساس القوت اليومي إن لم يكن الوحيد لدى أهالي المخيمات.
فمن المتوقع أن يكون فصل الشتاء هذا العام أكثر برودة وبالذات في المخيمات، لكن ثمة رهان على توقيت وصول المساعدات، مع توجس من عدم وصولها بسرعة، مما قد يزيد من الأزمة التي يعاني منها اللاجئ والنازح والمقيم؛ إنها تقاطعات توحي بمستقبل مظلم في عموم سورية، اتضحت مؤشراته من خلال زيادة معدل الجرائم بحق المرأة والأطفال بشكل خاص، وانتشار الإدمان للمواد المخدرة، في ظل تراخي شبه مقصود من الأطراف المسيطرة على تلك المناطق لغايات وأسباب متداخلة، وبظل صمت وتواطؤ عربي ودولي في هذا الشأن، لدفع الناس صاغرين للقبول بأية حلول، أخطرها تعويم العصابة المجرمة وإعادة تدويرها، ذلك كله في ظل وباء الكوليرا الذي لن يكون القعر الأخير للمأساة، فضلاً عن الجرائم الموصوفة والقصف المستمر ضد أهلنا ومخيماتهم في الشمال السوري!
فكم بدا الحقُ كذبة! وكانت الحقائقُ مزيفة؟ وكانت القيم حثالة؟ فلا غرابة إذاً بإقامة احتفالات فرحاً بقيم وحقائق مزيفة! فساحات الدول العظمى تستضيف وتحتفي بقادة ميليشيا إرهابية ولا أحد ينظر ويرى أياديهم الغائرة بدم من أبادوهم وتاجروا بهم وبدمائهم؛ وباتت المبادئ مساحيق تجميلية وهندام سياسي واحتفال لفظي، إنها خاتم مُذهب، وكتبْ إشادة ومتاحف ذاكرة، وهي أيضاً، مناسبة لتصنيف أبناء البشر ودولهم، وتأبيدهم بالخضوع والخوف؛ فالحقيقة الأقوى السائدة أن الحق مع الأقوى وليذهب الطيبون إلى النسيان!
المصدر: إشراق