هل قرأ بوتين “كلاوزفيتز”؟!

مصطفى فحص

يتقن الكولونيل السابق في المخابرات السوفياتية، الرئيس الحالي لروسيا الاتحادية، فلاديمير بوتين، اللغة الألمانية، ومن المعروف أن الأكاديميات الأمنية والدبلوماسية الروسية تفرض على منتسبيها اختيار لغة أجنبية للتخصص، ما يعني أن بوتين متخصص بالشؤون الألمانية، ومن الطبيعي أن يكون ملما بالتراث السياسي والثقافي والعلمي لألمانيا، لذلك من المتوقع أن ضابط استخبارات خارجية خدم تحت جدار برلين في زمن الحرب الباردة وتوازن الرعب ما بين حلفي (وارسو والأطلسي)  قد قرأ كتاب المؤرخ العسكري الألماني الشهير كارل فون كلاوزفيتز “عن الحرب”.

ولكن المفاجأة أن مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا، والحالة المزرية التي ظهرت فيها القوات المسلحة الروسية في عتادها وعديدها كانت صادمة، فهذه الحالة دفعت مبكرا إلى وضع علامات استفهام كبيرة حول إذا ما كانت القوات الروسية جاهزة للقيام بعملية احتلال لبلد آخر، أو أن لديها ما يكفي من قدرات تسمح لها بالتوغل في العمق الأوكراني لوجستيا، إلا أن الوقائع الميدانية كشفت عكس ذلك، إذ ظهرت سريعا المعاناة اللوجستية للوحدات القتالية الروسية، وكأن القيادة الروسية لم تطبق أبسط المعادلات وأوضحها التي وضعها كلاوزفيتز “بأن الجيوش تزحف على بطونها”، فكيف لأصحاب البطون الخاوية والآليات الفارغة من ذخائرها ووقودها أن تحقق النصر.

الواقع المرير الحالي الذي تعاني منه الوحدات الروسية سيؤدي في المستقبل القريب بنظر الخبراء إلى قلب المعادلة التاريخية التي كانت روسيا تستخدمها كسلاح حاسم بوجه كافة الغزاة الذين حاولوا احتلالها، فجنرال الشتاء الذي كان أهم قوة ضاربة روسية، قد ينقلب هذه المرة لصالح الأوكران، فمع التوقعات بانخفاض وتيرة المعارك في فصل الشتاء، إلا أن الجيش الروسي سيواجه صعوبات إضافية ومعاناة لوجستية، فيما سيكون لدى القوات الأوكرانية قدرة على التحرك، ما قد يؤدي إلى استمرار ضرباتها ضد الروس، ومنعهم من أي تقدم محتمل مستقبلا أو تجبرهم على التراجع، فجنرالات الصقيع هذه المرة في الخندق الأوكراني وسيؤمنون طوال فصل الشتاء لكييف الدعم لكي تحافظ على ما تم تحريره شرقا وجنوبا، وحماية الأراضي التي تحت سلطتها.

يشرح كلاوزفيتز معادلته التى لم ينتبه إليها جنرالات الرفيق بوتين بالقول “من أين تأتي هذه السهولة الكبرى في المحافظة والحماية؟ إنها تأتي من أن الوقت الذي ينقضي دون أن يستفيد المهاجم منه، يتحول لصالح المدافع الذي يحصد الأرض التي لم يزرعها، ويعتبر كل تأجيل للهجوم، بسبب الخوف أو الغطرسة أو أي آراء خاطئة، ميزة تُمنح للمدافع”.

في غزو أوكرانيا سيطر على الرئيس الروسي غرور إمبراطوري، لذلك لم يُعر قوة المدافعين أي اهتمام، بالرغم من ان كلاوزفيتز ميّز بين قوة المهاجم وبين قوة المدافع، وكان واضحا في توصيفه أن المحافظة على الشيء أسهل من اكتسابه، فهو يعتبر أن الدفاع أسهل من الهجوم، ولكنه اشترط أن تكون الوسائل القتالية متساوية لدى الطرفين.

ولكن في الأيام الأولى للحرب كانت التوقعات أن آلة الحرب الروسية الضخمة والمتفوقة عدة وعددا على الأوكران قادرة على حسم المعركة، إلا أن سوء الإعداد الروسي من جهة ومن جهة أخرى القرار الغربي بتزويد الأوكران أسلحة فتاكة أدى إلى تغيير موازين القوة.

فعليا أدى العجز اللوجستي المبكر إلى تسريع الفشل الميداني وإلى عجز الوحدات الروسية عن تحقيق أهدافها الاستراتيجية، فمنذ وصولها إلى حدود العاصمة كييف، وثم تراجعاتها الميدانية المتلاحقة تحت ضربات الجيش الأوكراني، وصولا إلى هزيمة خيرسون الاستراتيجية، يتضح تخبط صناع القرار في الكرملين في اتخاذ قراراتهم، فالجنرال الذي نودي به من سوريا بهدف قلب المعادلة العسكرية كان أهم قرار له الانسحاب من خيرسون، ما يعني وبرأي مراقبين عسكريين أن روسيا فقدت القدرة على شن أي هجوم مستقبلي على مدينة ميكولايف وأوديسا، وبأنها لم تعد قادرة على قطع طريق كييف في الوصول إلى مياه البحر الأسود.

الواضح أن الإخفاقات العسكرية السريعة جعلت القيادة الروسية تكتفي بردات الفعل فقط وهذا يعني أنها تحاول الآن إدارة الأزمة، وهذا الخيار يتخذ عندما لا يكون لدى القيادة خطة استراتيجية واضحة، أو عندما تفشل استراتيجيتها، فالجنرالات الروس الذين لم يختبروا الحروب الحقيقة لم يكن لديهم استراتيجية واقعية بل اعتمدوا على بعض التنبؤات الاستخباراتية، وهنا يعود كلاوزفيتز ليقول “كل شي في الحرب بسيط جدا، ولكن أبسط الأشياء صعب، وتتراكم الصعوبات وتفضي إلى إنتاج نوع من الخلاف يتعثر فهمه إذا لم يجرب المرء الحرب”.

في الخلاصة البوتينية أن الطغاة لا يقرأون، وان قرأوا يقرأون ما يرضيهم أو يقرأون متأخرين بعد فوات الأوان، فحتى لو “كل شيء في الاستراتيجية بسيط جدا ولكن هذا لا يعني أن كل شيء سهل جدا” كما قال صاحب كتاب “عن الحرب”.

 

المصدر: الحرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى