بايدن ليس وحده المبتهج بنصف الكأس الملآن

سمير التقي

رغم برودتها، كانت تلك أكثر الانتخابات النصفية إثارة في أميركا. فقد حملت الكثير من العبر، وكانت على عكس توقعات المشككين، لافتة من حيث كفاءتها، بل تحققت فيها أعلى نسب التصويت.

وبغض النظر عن تأخر النتائج النهائية، ثمة حقائق بادية من الآن، وبدأت تداعياتها داخل أميركا وخارجها. فرغم قاعدة “خسارة حزب الرئيس” في الانتخابات النصفية، خبت الموجة الجمهورية الحمراء، لتغدو مجرد اختلاج، لعله عابر. وسقط معها التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية. بل يتضح أنه رغم الانقسام الحاد، يصر الجمهور العام على عدم الذهاب بعيداً مع التطرف يميناً أو يساراً، والقبول بمرجعية المؤسسات وآلياتها كحكم سياسي.

وإلى جانب السقوط المدوّي للعديد من المرشحين الجمهوريين المدعومين من ترامب، وصعود خصومه الجمهوريين الأكثر وضوحاً، يكتشف ترامب أن الكل يراه “ملكاً عارياً”. بل يتضح أن حملة انتقام النساء الجمهوريات والديموقراطيات من هؤلاء المتطرفين الذين حرموهنّ من الحق الدستوري بالإجهاض، لم تنته بعد.

نعم صار ترامب وإرثه حتى في المحكمة الدستورية، عبئاً على الحزب الجمهوري. ليتحول ضغط الشباب الجمهوري إلى تحد للمؤسسة الهرمة. وبعدما بصموا بالعشرة لترامب في أكثر لحظاته رعونة، تسارع الزعامة العتيقة للجمهوريين بالفرار بعيداً، ليصبح تسليم رأس ترامب للعدالة مخرجاً محتملاً لمواجهة الانقسام الخطير لقاعدتهم التقليدية.

لكن حال المؤسسة الحزبية العتيقة للديموقراطيين لم تكن أفضل. ولن تكون بيلوسي الضحية الوحيدة لهذه الانتخابات، فلم تذهب أصوات الديموقراطيين نحو أقصى اليسار، ولا تذهب على هوى المؤسسة الحزبية. بل دفعت الانتخابات بجيل جديد من الديموقراطيين. وتبين بوضوح أن الديموقراطيين يعانون فراغاً جوهرياً على المستوى الوطني، إذ فشلوا باستمرار في إيصال رسالة اقتصادية واجتماعية واضحة، سواء تجاه خفض التضخم، أم الهجرة أم مستقبل الأمن الفردي والديموقراطية، والتي ستصبح أسلحة في يد شباب الحزب تقرع بابهم طوال عامين.

كانت النتائج زاخرة أيضاً بمؤشرات المرة الأولى! ففي جميع أنحاء البلاد، كسر المرشحون من النساء والسود وذوي الهوية الجنسية غير التقليدية، مكاتب الحكام والكونغرس. في ماريلاند، انتُخب أول حاكم أسود، ونجح ديموقراطي مثلي في ماساتشوستس، وأرسلت فيرمونت إلى الكونغرس امرأة لأول مرة، ونجحت في ماساتشوستس هيلي أول امرأة مثلية. ليصل عدد النساء إلى ما يقارب الـ20%، إضافة إلى نجاح أكثر من 12 امرأة كحاكمات ولاية، وهي سابقة لم تحصل أبداً. وفي ماريلاند، نجح الديموقراطي والمحارب القديم ويس مور، كأول حاكم أسود قاد أكبر منظمات مكافحة الفقر في البلاد، وحملة لخلق فرص متساوية لسكان ولايته. وبدورها، ترسل فلوريدا الديموقراطي الأسود ماكسويل فروست الكوبي الأصل (25 عاماً) كأصغر عضو في تاريخ الكونغرس. وانتخبت بنسلفانيا أول عضو كونغرس أسود فيها. وفازت سمر لي كأول عضو كونغرس سوداء في بنسلفانيا. كما انتُخب نائبان ذوَا هوية جنسية غير تقليدية ممثّلين لولايتي نيوهامبشاير ومينيسوتا في مجلس النواب.

سواء في الحزب الديموقراطي أم الجمهوري، يحمل جيل من النشطاء المجتمعيين والسياسيين تطلعات ورؤى مختلفة لمجتمعهم عن الجيل العتيق من المخضرمين المهيمنين. وبغض النظر عن تقييم حقبة ترامب، فقد كان تعبيراً عن هذا الفراغ. لكن ترامب نفسه لم يكن إلا نسخة ناشزة من الجيل القديم ذاته.

تمر أميركا بأوج أزمة مجتمعية ومؤسساتية دورية. لقد اشتعل الصراع السياسي على مرجل النمو الاقتصادي والاجتماعي الجامح والمستند إلى تحالف عضوي، بين الأكاديميا والبزنس. حصل ذلك سابقاً إثر “تحدي سبوتنيك” السوفياتي. ونجمت عنه في حينه موجة من الفوضى. فاغتيل كنيدي، وأخوه، ومارتن لوثر، وعلى إيقاع الهزيمة في فيتنام، ونهضت حركة ثقافية هائلة تجلت في حركة “الهيبيز” وموجة فلسفة ما بعد الحداثة، الخ. والآن تمر الولايات المتحدة بمخاض مشابه. ورغم مخاوف الخراب والهزيمة الأميركية، تظهر الانتخابات أن الأزمة الراهنة جزء من دورة معتادة.

منذ الحرب العالمية الثانية، بدّل المجتمع السياسي الأميركي نخبه خمس مرات عبر اختلاجات مختلفة، ونحن الآن نعيش أوج واحدة منها. ويقر الأميركيون في طرفي الصراع بأنه أمكن تجنب الأسوأ، لتعود اللعبة المحتدمة بين الحزبين إلى ضوابطها المعتادة.

بالنسبة إلى رئيس يكافح باستمرار انخفاض شعبيته، قدمت الانتخابات نتيجة مذهلة. لكن بايدن، المعروف بثقافة التوافقات مع الجمهوريين، أحجم عن نهجه التوافقي بهدف قطع الطريق على مشروع ترامب. والآن، أما وأن تسونامي ترامب يتراجع، ها هو يعلن أنه يتطلع إلى مزيد من التعاون مع الجمهوريين.

وبينما تظهر نتائج المجلسين أن بايدن لا يزال على سروجه، يبدو أن خطط الجمهوريين لعزله وتركيع إدارته ستولد ميتة. لكن بايدن سيضطر حتماً للتوافق، ليس فقط مع الجمهوريين في المجلسين، بل مع جيل الشباب الصاعد في حزبه.

ويبقى منهج تقليص دور الدولة الفاسد والكابح للنمو، في المجتمع، قيمة مؤسسة للديموقراطية الأميركية. إلا أن الميل إلى توفير قدر أكبر من العدالة ضمن الآليات الرأسمالية يتصاعد باطراد. كل ذلك في سياق منظومة قيم جديدة، بعيداً من اليمين العتيق للحزام الإنجيلي واليسار العتيق لبرني ساندرز.

وفي المقابل، يمكن أن نتلمس بوضوح وجهات نظر السياسة الخارجية للجمهور الأميركي. حيث يدعم الأميركيون مشاركة الولايات المتحدة في العالم، لكنهم في الممارسة العملية قلقون من أن الدول الأخرى تستفيد من الولايات المتحدة أكثر مما تعطيها. لذلك تنفس الأوروبيون والحلفاء الآسيويون الصعداء بنتيجة الانتخابات. فقد تم تجاوز التسونامي الخطر الذي يمكن أن يرتد بأميركا بعيداً من تحالفاتها.

وتعد نتائج الانتخابات بفترة من الاستمرارية، تجاه أوكرانيا وفي مواجهة روسيا وعزلها. كما توحي باستمرار السياسة المزدوجة في المنافسة مع الصين، بين الردع الاستراتيجي وتحقيق أكبر ما يمكن من تعاون حول المناخ والقضايا الدولية.

أما تجاه الشرق الأوسط، فلا تزال الإدارة تعيد ترتيب تحالفاتها وصوغها. لكن كل التصورات ترجح أن فرصة إيران في الاتفاق النووي تضاءلت بقوة. لتبقى السياسات الأميركية تكتيكية، ريثما تعيد بلورة تحالفاتها الهادفة إلى إغلاق الإقليم أمام روسيا كدولة معادية والصين كمنافسة صاعدة.

مرة أخرى فاجأت الديموقراطية خصومها بأنها عبر إدارة الفوضى وآليات الضبط والتحقق، تستمر في العمل كالمعتاد في خضم دراما مثيرة. وبعد ست سنوات صعبة، يبدو أن الأميركيين صوّتوا لمصلحة الاستقرار والهدوء.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى