أنهى هجوم شباط الروسي باتجاه الأراضي الأوكرانية شهره الثامن في عملية عسكرية واسعة، تجاوزت ارتداداتها السياسية والاقتصادية جغرافيا القرم، ووصلت إلى عمق التوازنات الإقليمية والدولية، لتقود نحو خلط أوراق واصطفافات جديدة بين المعسكرات والتحالفات الغربية والشرقية.
حققت موسكو جزءا من أهدافها، لكن خسائر الحرب في الجانبين وصلت إلى عشرات الآلاف من القتلى والجرحى ومليارات الدولارات من الإنفاق العسكري ودمار يحتاج إلى موازنات بالمليارات وسنوات طويلة من العمل الشاق لإعادة بناء ما تهدم. هذا إذا ما جلس الفرقاء حول طاولة التفاوض وتوقفت المعارك قريبا وهو الاحتمال المستبعد اليوم.
هل سيدفع الانقسام الغربي في موضوع الحرب القيادة الأوكرانية للأخذ بما تقوله بعض العواصم الأوروبية؟ أم هي ستمضي وراء السياسة الأميركية التصعيدية ضد روسيا ميدانيا وسياسيا حتى النهاية؟ وهل ستقنع التحليلات والأبحاث العالمية واشنطن بأن المستفيد الأكبر من الحرب قد لا يكون تركيا بالضرورة، بل الصين وإيران قبل غيرهما مع الأخذ بعين الاعتبار حجم الأضرار والخسائر الاستراتيجية التي تتعرض لها روسيا والعواصم الأوروبية؟ مفتاح الإجابات على السؤالين معا هو هل سيكون هناك لقاء قمة روسي أميركي سري أو علني يحول دون اتساع رقعة المعارك والخلافات أكثر من ذلك أم أن الحسم لا بد أن يكون بالضربة القاضية بحسب بوتين أو وبايدن؟
وصفت كييف خطوة الانسحاب العسكري الروسي من إقليم خيرسون في القرم، بأنه قد يكون مناورة لعدم ترك القوات الروسية مكشوفة على الضفة الغربية لنهر دنيبرو الاستراتيجي في القرم. ستحاول روسيا من جانبها ربط قرار الانسحاب من الإقليم الذي ضمته إلى أراضيها قبل أسبوعين، بمتطلبات سياسية واقتصادية عاجلة توازن من خلالها هذا التراجع الميداني والعسكري على الأرض. لكن انسحاب القوات الروسية من خيرسون لن يكفي الرئيس الأميركي، لأنه متمسك بشرط عدم توقف القتال على الجبهات في أوكرانيا قبل انسحاب روسي كامل من هناك. هل سنرى قريبا مفاجأة عسكرية روسية جديدة وتخلياً آخر عن أحد الأقاليم الأوكرانية التي ضمتها روسيا إلى أراضيها، لتشجيع واشنطن أكثر على الذهاب إلى طاولة الحوار مع موسكو؟
تقول الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا سنعلن في قمة الدول العشرين المرتقبة عن خطوات جديدة في ملف نقل الحبوب الأوكرانية إلى الخارج وموسكو ستأخذ بعين الاعتبار مسألة عدم الالتزام بتنفيذ الوعود المقدمة لها في موضوع تسهيل خروج المواد الغذائية الروسية المحاصرة بمئات الأطنان.
ويقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن الثقة المتبادلة بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير بوتين فتحت الأبواب أمام المساهمة في تسوية العديد من الأزمات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها جهود التهدئة التركية بين موسكو وكييف ما الذي يعول عليه أردوغان في الأيام القليلة المقبلة خصوصا أن أصواتاً روسية عديدة تعلن عن مفاجآت في الملف الأوكراني بعد اللقاءات التركية الروسية على هامش أعمال مجموعة العشرين في بالي؟ وهل سيفتح بايدن الطريق أمام المزيد من التفاهمات وتبادل الهدايا التركية الروسية؟
بين الفرص الثمينة التي قدمتها الأزمة الأوكرانية لأنقرة دخولها الفوري والسريع على خط الوساطة بين دولتين تولي للعلاقات معهما أهمية بالغة. من الجهود الدبلوماسية على خط أنقرة -كييف – موسكو، إلى الوساطة في ملف الحبوب الأوكرانية وتسهيل نقلها من مستودعاتها إلى العالم الخارجي. وبعدها النجاح في ملف تبادل الأسرى بالمئات بين البلدين بتكتم وحذر. أنقرة تعد نفسها الآن وبالتنسيق مع الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش لتمديد أو تجديد اتفاقية إسطنبول للحبوب التي ينتهي مفعولها بعد أسبوع. ماراتون سياسي ودبلوماسي جديد ينتظرها كما يبدو في المرحلة المقبلة.
بوتين من جانبه لم يتأخر في عرض المزيد من الهدايا الاستراتيجية لأنقرة تقديرا لدورها وجهودها. “تركيا تستحق أن تكون مخزن الغاز الروسي ومستودع الحبوب التي تنوي موسكو تصديرها إلى الخارج”. هل بين أهداف بوتين عبر خطوات من هذا النوع فتح الطريق أمام أردوغان لتسريع وساطته والعمل على إعادة إحياء طاولة التفاوض السياسي بين طرفي النزاع بحضور الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش بعدما وجد أن بايدن لن يعطيه ما يريده أمام طاولة تفاوض ثنائية تنتظر منذ أشهر؟
لم يعد خافيا على أحد أن مناورة موسكو من خلال تجميد مشاركتها في اتفاقية إسطنبول للحبوب والعودة عن قرارها خلال 3 أيام فقط، كان بهدف تحضير الأجواء السياسية والعسكرية لنقاشات جديدة في التعامل مع ملف الأزمة الأوكرانية. هل يمكن الربط بين القرارين الروسيين في التجميد والإلغاء وبين قرار الانسحاب العسكري من مدينة خيرسون الأوكرانية؟ الإجابة قد تكون عند أنقرة التي قدمت ضمانات شفهية كما يبدو لطمأنة روسيا أن مطالبها في الإفراج عن حبوبها ستدرس بجدية مع الأمين العام للأمم المتحدة، طالما أنه والآخر ينظر بحماس وتفهم للمطلب الروسي بهذا الخصوص. الحراك التركي كان يهدف أيضا لإقناع بوتين بالتريث حتى انتهاء فترة اتفاقية إسطنبول والتحضير ربما لاتفاقية جديدة أو معدلة تتعامل بإيجابية مع المطالب الروسية. وربما لهذا السبب سمعنا الرئيس الروسي يقول إنه لم ينسحب من اتفاقية إسطنبول بل جمد مؤقتا المشاركة فيها، متجاهلا استمرار تنفيذ عمليات شحن الحبوب الأوكرانية في البحر الأسود على مسمع ومرأى موسكو.
بوتين وفريق عمله يريدان:
-لعب الأوراق التركية حتى النهاية للاستثمار في الخدمات التي تقدمها أنقرة لتخفيف اعباء وارتدادات الحظر والمقاطعة والعقوبات الغربية ضد روسيا أولا.
-ثم تشتيت وحدة الصف الأطلسي الهادف لتنسيق المواقف العسكرية ضد روسيا عبر محاولة تحييد تركيا نتيجة التداخل الجغرافي خصوصا في منطقة البحر الأسود وخط العبور الاستراتيجي الذي تحتاجه روسيا في منطقة المضائق ثانيا.
-وبعد ذلك الاستفادة من الفرص الاقتصادية التركية في ملفات الطاقة وتصدير المواد الغذائية الروسية إلى الخارج حتى ولو كانت بالمجان باتجاه فقراء آسيا وأفريقيا كما أعلنت موسكو ثالثا.
بقي التذكير بالمحاولات الروسية الواضحة للعب أوراق تركية وإيرانية في حربها مع أوكرانيا. لكن اللافت أكثر هو نجاح كلا الدولتين في لعبة موازنة الوقوف إلى جانب موسكو في ملفات سياسية وأمنية واقتصادية تتطلب حماية مصالحهما معها من جهة. وفي الوقت نفسه التنديد بخطوة التوغل الروسي في الأراضي الأوكرانية والأقدام على عملية ضم الأقاليم من جهة ثانية. هل ستنجح أنقرة وطهران في مواصلة تبني هذا الخط؟ وهل ستسمح موسكو والعواصم الغربية بمواصلته كما هو اليوم خصوصا أنه يفك قيود العزلة والمحاصرة الروسية ويتعارض مع قرارات المقاطعة الغربية في أكثر من مكان؟
بدأت القوات الروسية الانسحاب من إقليم خيرسون قبل أيام. بقيت ثلاثة أقاليم أوكرانية في القرم تحت الاحتلال.. من سيعيد لأوكرانيا أراضيها؟ القانون الدولي والأمم المتحدة أم الاصطفاف الغربي الداعم لكييف على كل الأصعدة؟ أم جهود الوساطة التي تبذلها بعض العواصم وفي مقدمتها أنقرة باتجاه إيجاد مخرج سياسي يرضي الطرفين؟
تلتفت موسكو بعين نحو فتح الطريق أمام أنقرة لتفعيل جهوده حراكها بين طرفي النزاع. لكن العين الروسية الأخرى هي باتجاه طاولة مفاوضات ثنائية وإقليمية مع واشنطن التي ما زالت تبحث عن فرص استنزاف روسيا عسكريا وسياسيا واقتصاديا ولتجمع المزيد من أوراق القوة قبل الذهاب إلى طاولة التفاوض.
في لغة الدبلوماسية المعاصرة تتجاهل الدول استفزازات دول أخرى معها بالقول هي حادثة وقعت بالمصادفة. في المرة الثانية يقال أخطاء سيتم تلافيها. في المرة الثالثة تنتهي التبريرات والذرائع.. هو ترجيح وعليه تحمل النتائج.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا