هل تصلح تجربةُ الأونروا لحل مشكلةِ التعليم في الشمال الخارج عن سيطرة النظام؟

د. أحمد سامر العش

تمَّ إنشاءُ الأونروا في أعقاب حرب عام 1948، وكان تفويضها على النحو المحدد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302 (IV) المؤرخ 8 كانون الأول (ديسمبر) 1949، ذا شقين : القيام، بالتعاون مع الحكوماتِ المحلية، بتنفيذ برامج الإغاثة المباشرة، والعملِ على النحو الموصى به من قبل بعثةِ المسحِ الاقتصادي، والتشاورِ مع حكوماتِ الشرق الأدنى المهتمة فيما يتعلق بالإجراءات التي يجب اتخاذُها استعدادًا لوقف المساعدة الدولية لمشاريع الإغاثة والتشغيل.

 بدأت الأونروا عملها في مايو 1950، وتم إنشاؤها في المقام الأول لمتابعة الإغاثة الطارئة التي تم تنفيذها حتى ديسمبر 1949 من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) ، ورابطة جمعيات الصليب الأحمر (LRCS) ولجنة خدمة الأصدقاء الأمريكية (AFSC) ؛ كما تم تكليفُها بتنفيذ برامجِ الأشغالِ العامةِ الهادفة إلى إعادة الاندماجِ الاقتصادي للاجئين الفلسطينيين. أصبحتِ الوكالةُ منذ ذلك الحين المنظمةَ الدوليةَ الوحيدةَ التي تم إنشاؤها لمواجهة مشكلة محددة للاجئين في منطقة جغرافية محددة (غزة والضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان). من حيث المبدأ، يتم التعاملُ مع جميع حالات الهجرة القسرية الأخرى من قبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) ، بما في ذلك لاجئي فلسطين المقيمين خارج مناطق عمليات الأونروا الخمس.

 ومع ذلك، فقد تميز نطاقُ عملِ الوكالة منذ البداية بعدد من الأمور الغامضة المتعلقة بأهداف مانحيها والأثر المحتمل لعملياتها، أي إعادة توطين اللاجئين خارج فلسطين التاريخية، وألقى ذلك بظلال من الشك على استعداد المجتمعِ الدولي لتنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، والذي عدَّه اللاجئون الفلسطينيون ضمانًا لحقهم في العودة و / أو التعويض. من خلال فصلِ السياسة عن المساعدات الإنسانية في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ومن خلال برامجِ العملِ التابعة لها، بدأت الأونروا في تنفيذ إستراتيجيات إعادة التوطين، التي كان نطاقها إنسانيًا (وليس سياسيًا) ولكن بالتأكيد كان لها عواقبُ سياسية.

 لم تكن الأونروا مسؤولةً عن البحث عن حل دائمٍ للأزمة الفلسطينية التي هي بطبيعتها أزمةٌ سياسية، حيث تم نقلُ هذه المهمةِ رسميًّا إلى لجنة حل النزاعات التابعة للأمم المتحدة والخاصة بفلسطين. وبهذا فإن الأونروا، بصفتها منظمةً غير سياسية رسميًّا، منخرطة بعمق في سياق مسيّسٍ للغاية منذ بداية تشكيلها، كانت في مساعيها العمليةِ متوجهة نحو الحلول الناجعة، إلا أن “إيجاد الحلول الناجعة” كان يتعارض في كثير من الأحيان مع أهدافِها المعلنة. إن ما تحقق وجعل من نجاحات الأونروا في المنطقة ممكنًا هو غموضُها وقدرتُها على إدارة هذا الغموضِ في ذات الوقت .هناك ثلاثةُ أمثلة على هذا الغموض تساعد في شرح هذا الوضع :(أ) نطاق عملها، (ب) الشؤون المالية، (ج) والمدة المحددة لعملها، وهنا النقطة الجوهرُ التي نحاول أن نستخلصَها من تجربة الأونروا التي نرى أنه يمكن من خلالها إنقاذُ الإنسانِ السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

إذا نظرنا إلى موظفي الأونروا وأنشطتها، باعتبارها بيروقراطيةً معولمةً في مرحلة ما بعد الاستعمار، فإن الأرقام مثيرة للإعجاب، في نهاية العقد الأول من القرن الحالي، توظف الأونروا ما يقرب من 30،000 شخص، وتلبي احتياجات ما يقرب من 4،700،000 لاجئ مسجل، وتقدم الخدمات في ثمانية وخمسين مخيمًا منتشرةً في مناطق عملها الخمسة. تدير الوكالة 689 مدرسة و10 مراكز تدريب مهني وتقني، حضرها ما يقرب من نصف مليون طالب، ويعمل بها أكثرُ من 21200 كادر تعليمي. استقبل مئة وثمانية وثلاثون من مرافق الرعاية الصحية الأولية التي تديرها ما يقرب من 4200 موظف طبي وأكثر من 9.5 مليون زيارة للمرضى في عام 2008. وفي قطاع الإغاثة والخدمات الاجتماعية، يساعد 700 موظف أكثر من 257000 حالة عسرٍ شديد (6 في المئة) من إجمالي اللاجئين المسجلين والإشراف على خمسة وستين مركزًا لبرنامج المرأة وسبعة وثلاثين مركزًا للتأهيل المجتمعي. كما منحت إدارة التمويل الأصغر والمشاريع الصغيرة (منذ 1991-1992) أكثر من 165000 قرض بقيمة إجمالية تقارب 182 مليون دولار أمريكي.

تكشف الأرقام أعلاه عن الوظيفة شبه الحكومية للأونروا التي تشكل مزودَ خدمةٍ عامةٍ موازية (لتخفيف العبء المالي على البلدان المضيفة) و “إدارةٍ غير إقليمية” دون سلطة قسرية، التي يتعين عليها تحقيقُ أهدافِها بشكل أساسي من خلال الوساطة مع أطراف متنوعة. ومع ذلك، فإن دورَ وأنشطة الوكالة – التي غالبًا ما يُطلق عليها “الدولة الزرقاء” (بسبب علم الأمم المتحدة) – ألقت في بعض الأحيان بظلال من الشك على شرعية وجود الأونروا في بعض البلدان المضيفة، بما في ذلك الأردن في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات وكذلك لبنان من أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

العملية التعليمية والإغاثية في الأزمة السورية بحاجة إلى إعادة تقييمٍ شاملة في ضوء المتغيرات الشديدة التي طرأت على البيئات الدولية والإقليمية والمحلية، ولم تعد الأطراف الفاعلة القديمة-الجديدة، أو المقاربات السابقة تصلح لمعالجة ولو جزء من المشكلة، وهنا لابد من استدعاء رؤية وطنية شاملة للملف الإنساني بعيدًا عن الملف السياسي بشقيه المحلي والدولي.

لا شك أن الأطراف الفاعلة أصبحت متخندقةً بل وحتى مكبلة بالآليات القديمة. ونسجت شبكة العلاقات والمصالح التي تطورت في اتجاه تسكين الأزمة لا علاجها، حاجزًا فكريًّا ونفسيًّا بل وحتى مصلحيًّا لإيجاد حلولٍ أكثرَ نجاعةً وأقلَّ انعكاسًا سلبيًّا على مجتمعاتنا الممزقة وأزماتها التي تزداد مع مرور الوقت .تبدو مقاربة رؤية الأونروا -كرؤية وليس كمنظمة، لانتشال مجتمعات المشردين واللاجئين بعيدًا عن الحلول أو حتى الأوضاع السياسية محليًّا ودوليًّا وإقليميًّا- إحدى المقاربات التي يمكن العملُ عليها قبل أن تفنى هذه الشعوبُ المشردةُ تحت وطئة الحاجة، وانعدام الحل السياسي الذي من الممكن أن يستمر لعشرات السنوات! مضافًا إليها شبكاتُ المصالحِ الضيقةِ للأطراف الفاعلة على المستوى الإنساني التي تُعَدُّ حلولها الحالية للأزمة بمثابة الكأس المقدسة لمصالحها الضيقة.

دعوة كثيرٍ من الإخوة المخلصين أطرافًا قادرة على المساعدة يبدأ بصياغة رؤية وطنية للأزمات الإنسانية ومنها الملف التعليمي، بمعزل عن الحل السياسي الذي لا يبدو هناك إرادةٌ دوليةٌ لتطبيقه في الأفق القريب، كذلك لن يكون إنشاءُ منظمة مشابهة للأونروا بمتناول أيِّ طرفٍ نتيجة المعادلة الصفرية للرؤية الدولية الحالية. وعليه فإن صياغةَ رؤيةٍ وطنيةٍ خالصةٍ للكارثة الإنسانية وتسويقها للأطراف الدولية على أنها رؤيةٌ داخليةٌ بعيدةٌ عن الحل السياسي سيُخرج بكل تأكيد حلولًا إبداعية يكون لها فرصُ قبول أكبر على الساحة الدولية  ، وستؤدي الى جلب الدعم والتعاطف الدولي من جديد للأزمة الانسانية السورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى