حين حلّت كارثة الزلزال في السادس من شباط الماضي على تركيا وقسم كبير من المدن السورية سارع عدد من الدول العربية التي كانت في قطيعة شبه تامة مع حاكم دمشق، إلى التواصل مع حكومة نظام الأسد، سواءٌ بإرسال التعازي وإبداء مشاعر التضامن أو من خلال إرسال المساعدات الإنسانية، وذلك تحت غطاء الكارثة الإنسانية التي يجب تحييدها عن بواعث السياسة وفقاً لإعلام الدول العربية التي وجدت في تداعيات الزلزال غطاء مناسباً لتمرير نزوعها اللاهف لانعطافة سياسية تجاه الأسد، ثم ما لبثت تلك الفزعة العربية والنخوة التي التحفت بالغطاء الإنساني أنْ تحولت إلى مبادرة سياسية تقف وراءها عدة دول عربية، وقد أفضت هذه المبادرة إلى إعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية ، ومن ثم حضور رأس النظام قمة جدّة، وقد جعل العرب أنذاك من مؤتمر عمّان الوزاري الذي انعقد في أيار الماضي منطلقاً لمبادرتهم المندرجة تحت مبدأ (خطوة مقابل خطوة) بغية إعادة تسويق الأسد ومن ثم دمجه في النظام الإقليمي العربي من جديد، ولكن واقع الحال أثبت أن نظام دمشق لم يكن يعبأ كثيراً بمبادرتهم، ولم تبدُ على النظام – آنذاك – أية علائم تؤكّد تلهّفه للعودة إلى أقرانه كما بدت عليهم أنذاك، بل يمكن التأكيد على أن نظام دمشق مارس مزيداً من العنجهية حيال نظرائه العرب، ووجه لهم صفعة قوية في أول لقاء بين لجنة الاتصال العربية ووزير خارجية الأسد في القاهرة في الخامس عشر من شهر آب الماضي، حين أكد لهم بوضوح أن نظام الأسد ليس بوارد تقديم أي تنازل لأقرانه، بل ربما راح يرفع سقف مطالبه، مطالباً إياهم بالعمل على إعادة إعمار ما دمرته طائراته، ما يعني أنه يطالبهم أن يكافؤوه على جرائمه، الأمر الذي أحدث نوعاً من (الحَرَن) لبعض الدول العربية التي تبنّت التطبيع مع الأسد، بل ربما رفع البعض صوته ساخطاً أو محتجاً على الأسد باعتباره لم يفِ بوعوده التي قطعها على نفسه أمامهم، بينما بشار الأسد يكذّبهم على العلن، بل يوبخهم على العلن، كما فعلها أثناء مقابلته مع قناة سكاي نيوز عربية في التاسع من شهر آب الماضي، حين أكد لهم أن الكبتاغون لن يتوقف، ورمى مسؤولية المخدرات على الدول التي ساهمت بإيجاد الفوضى في سوريا على حد زعمه. وعلى أية حال ربما لا يستغرب كثير من السوريين سلوك الأسد حيال العرب بهذا الخصوص، وخاصة حين يدرك الجميع أن من أعاد الأسد إلى الجامعة العربية هي إيران، باعتبار أن شرط التطبيع مع الأسد هو جزء من صفقة سياسية بين طهران والرياض.
اليوم ثمة علائم ومؤشرات تحيل إلى أن بعض الحكومات العربية تتهيأ للتحرر من (حَرْنتها) وتهمّ بابتلاع ريق الحرج اليابس في حلقها لتنطلق مرة أخرى نحو بشار الأسد وتحت غطاء تزعم أنه إنساني أيضاً، ونعني بذلك تسارع بعض العواصم العربية إلى تقديم واجب العزاء بقتلى النظام الذي قضوا نحبهم يوم الخامس من تشرين أول الجاري في عملية الكلية الحربية، في تأكيد منهم على تصديق رواية الأسد بأن من استهدف ضباطه وقتلاه هم جماعات إرهابية تنتمي للمعارضة السورية بواسطة طائرة مسيرة، علماً أن نسبة كبيرة من مؤيدي النظام ومناصريه يدركون أن من خطط للمجزرة ونفذها هو نظام دمشق ذاته، وعلى الرغم من ذلك لا يرغب أقران الأسد من الزعماء العرب إلّا بتصديق رواية النظام، وبناء عليه فإن إصرارهم على هذا التصديق ربما جسّد إصرارهم على احتضانه حتى ولو أبدى لهم كل سوء، كما أن إصرارهم على احتضانه والمضي في محاباته قد أوجب عليهم تأييد حربه التي شنها – بالتوازي مع عملية الكلية الحربية – على سكان الشمال السوري، في أدلب وريفها، والريف الغربي لمدينة حلب، وربما بدت علائم هذا التأييد في سكوت الإعلام العربي عن المجازر التي تتوالى في الشمال السوري منذ الخميس الماضي وحتى هذه الساعة، تزامناً مع حالات نزوح كبير للسكان هرباً من براميل الأسد وقاذفاته وصواريخه التي تفتك بالمواطنين المدنيين، وتهدم بيوتهم فوق رؤوسهم.
احتفاء حكومات عربية بقتلى نظام الإجرام الأسدي وتقديمها العزاء لرأس النظام، وتجاهلها لحربه الشنيعة على المواطنين السوريين، هو موقف يتجاوز الشناعة الأخلاقية، بل ينحدر إلى تأييد الإجرام الأسدي باعتباره ردّاً على الإرهاب وفقاً لمزاعم حكومة الأسد، وفي هذا الموقف الخاذل لكل قيمة إنسانية يكمن التفسير الحقيقي لعدم تعويل الشعب السوري على أي مسعى عربي، وعدم ثقته بإخلاص الأنظمة العربية لقضايا شعوبها.
المصدر: موقع المجلس العسكري السوري
