في قمة صعودها عام 1820، بلغت حصة الصين من الاقتصاد العالمي أكثر من 27% من الدخل الكوني، وهو رقم تقترب منه الصين الآن، ثم جاءت الشيوعية لتخفض حصتها إلى 2.9%. من جانب آخر، يعلمنا تاريخ الصين، أنها خاضت آلاف الحروب لآلاف من السنين. إلا أن معظمها كان حروباً أهلية، أو حروباً لتطويع أقاليم صينية. وبحسب سجل هذه الحروب، ربحت الصين كثيراً من الحروب ضد الغزاة، لكنها خسرت كل حروبها في الأراضي التي لم تكن موالية لها، بما في ذلك خساراتها المدهشة ضد دول صغيرة مثل فيتنام والتيبت والنيبال.
على عتبة المعجزة الصينية، تبلورت رؤية الزعيم السابق دنغ شياوبينغ، إلى درء الحرب، والتركيز على النمو الاقتصادي بأقل قدر من المقاومة من الخارج. وبذلك فتح التاريخ للصين فرصاً لا تقدر بثمن.
وبعد سبعة عقود من الازدهار، وسقوط السوفيات، تكرّس عالم متعدد الأقطاب في ظل العولمة الليبرالية المفتوحة التي تتشارك فيها الصين بقوة.
لكن، بحسب وثائق المؤتمر العشرين، تحاول الصين التمايز عن العولمة الليبرالية، والتوجه بعيداً من العولمة الراهنة المتعددة الأقطاب، بل نحو عولمة مقسمة لحويصلات استراتيجية وأمنية واقتصادية.
وتعمل الصين على خلق مجالها الاقتصادي المنعزل استراتيجياً ومالياً، في شرق الباسيفيك، ثم في العالم، من خلال منظمة شانغهاي وزعزعة منظومة الدولار ومرجعيته المصرفية الدولية، وتمضي في زعزعة التحالفات الأميركية في شرق الباسيفيك. وفي المقابل، ترد الولايات المتحدة بنصب الحواجز الاقتصادية في وجه الصين وشحذ مناعتها الاستراتيجية.
يندرج خطاب الزعيم شي جينبينغ ووثائق المؤتمر، في السياق ذاته، إذ يقول إن “نفوذ الصين الدولي وجاذبيتها وقوتها زادت كثيراً لتشكيل العالم”، وأنه “في مواجهة التغيرات الجذرية في المشهد الدولي، حافظنا على عزم استراتيجي راسخ وأظهرنا روحاً قتالية”. ثم يقول: “التحديث الصيني يوفر للبشرية خياراً جديداً لتحقيق التحديث”. ليذهب الحديث عن درء احتمالات الحرب، ليحل محله الحديث عن الحرب لاستعادة وحدة الصين، من جهة، ومن أجل فرض “مصالحها” في محيطها الإقليمي.
وعلي هامش التقرير، خلافاً للماضي، تتكرر في طيات التقرير كلمة “الأمن” 90 مرة، فيما “للأمن” بشقيه الداخلي والاستراتيجي، فصل منفرد.
وإذ يعالج التقرير مجموعة المخاطر الطرية التي طرحتها أزمتا كوفيد وأوكرانيا، مثل تخزين الطاقة والغذاء وضمان سلاسل التوريد، فإنه يركز على المسار الصعب للعلاقات مع الغرب. ويتحدث بلغة صارخة عن المخاطر التي تسببها القوى الإمبريالية. وهنا بالذات يشطب تعبير “التعاون” ويستخدم “التفاعل الإيجابي”، وهو ما قرأته واشنطن سلبياً.
وإذ يستعيد التقرير مركزية الاشتراكية، والتناقض الجذري مع الليبرالية الدولية، كموضوعات نظرية، فإنه يتحدث عن بناء دولة اشتراكية حديثة. ويركز على التدريب العسكري وتطوير استراتيجيات الحرب الشعبية وتكتيكاتها، ونظام قوي للردع الاستراتيجي.
نعم إنه انعطاف حاد يستقبله حتى أصدقاء الصين بالقلق. فالأمر يتعلق بمدى توفر الأدوات لتحقيق النموذج المرجو، في ظل الركود الاقتصادي العالمي، وسياسة صفر كوفيد، والفقاعة العقارية الخ.. والأمر متعلق أيضاً، بالتناقض الجوهري في كنه الأدوات التي ينوي الزعيم شي استخدامها للوصول إلى أهدافه.
قامت النهضة العملاقة للصين تحت مظلة النظام العالمي الذي يحميه الغرب عسكرياً، حيث يشكل الدولار منظومته المصرفية والأداة المحورية لتدوير عجلة الاقتصاد العالمي.
من حق الصين، بكل المعايير، أن تحاول تحسين موقعها في تقسيم العمل الدولي، لكن الحديث عن خلق عولمة بديلة، يطرح مخاطر وتساؤلات جوهرية: كيف للصين أن تبني عولمتها، وتنشر نموذجها “للحداثة” بالاستناد إلى نموذج دولة الحزب الشيوعي، ورأسمالية الدولة الاحتكارية الفاسدة وقطاع خاص مقطوع الرأس. كل بلدان العالم الثالث تتبنى نموذج رأسمالية الدولة المحسوبية الفاسدة، وهو نموذج منهار أصلاً.
أقل ما يقال في هذا السياق إن على الصين أولاً أن تثبت نجاحها هي في الخروج من العولمة “الإمبريالية” وتأسيس عولمتها البديلة، قبل أن تصدره كأساس لمشروعها الكوني. ثم عليها ثانياً أن تثبت صلاحية هذا النموذج في دول غير الصين. ولو افترضنا أن الملائكة التي تحكم الصين صارت، بفضل التعبئة الشيوعية القومية، محصّنة عن الفساد القاتل لرأسمالية الدولة الاحتكارية، فكيف ستنقذ الدول الصديقة لها مثل باكستان وسيريلانكا وتركمانستان وطاجيكستان وفنزويلا وسوريا، وهي دول منهارة ينهشها الفساد؟ ثالثاً، في مناخ من الصراع الدولي، كيف ستحمي الصين عولمتها الخاصة وخطوط تجارتها؟ في بريتون وودز 1954 خلقت الولايات المتحدة عولمتها بقوة بحرية هائلة تكفلت بإدارة خطوط التجارة وبقدرات تتفوق مرات مضاعفة على القدرات النارية لمجمل بحريات العالم. وفيما يقع أقرب برميل نفط على بعد خمسة آلاف ميل من شواطئ الصين، فإن أقل من عشرة في المئة من سفنها السبعمئة، تستطيع الإبحار إلى أبعد من ألف ميل. رابعاً، بعدما دمّر بوتين طريق الحرير، ما هي استراتيجيتها لعولمتها البديلة؟ خامساً: كيف ستنجح الصين في خلق منظومة بديلة للدولار بعد فشلها المتكرر؟ إذ لا يمكن لاقتصاد الصين أن يستمر في العمل يوماً واحداً في عولمة مجزأة، إذ يعتمد 49% في دخل الصين على التصدير، ويذهب ثلثاه إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
ولن يمكن للمرجل الهائل للاقتصاد أن يعيش يوماً على أسواق تلك الدول الصديقة أعلاه.
سادساً: لكل نموذج كوني أيديولوجيا، فهل تعوّل القيادة الصينية على إعادة إنتاج الشيوعية والأممية البروليتارية؟ ستكون تلك ميلودراما طريفة، جسيمة وباهظة.
إذ تعي الصين قدراتها موضوعياً وذاتياً، يتوقع أن يقدم الزعيم شي على مخاطرات يعتقدها محسوبة في سعيه إلى “تحفيز التناقضات الدولية”.
ثمة أخطار محيقة ستواجه الصين: خطر تراجع الاقتصاد بفضل هروب رؤوس الأموال والمبدعين من رأسمالية الدولة الاحتكارية الفاسدة ومخاطر الاشتراكية وخطر تشرنق الصين، عندما تفشل في بناء عولمة بديلة فوق ركام مشروع الحزام والطريق الذي دفنه بوتين، لتنزلق بالتالي إلى مناخ المجابهة الاستراتيجية. والخطر الأبشع هو خطر الحرب.
في المقابل، تملك الصين الآن احتياطيات وقدرات لا متناهية، وهي قادرة، بحكمتها التاريخية، أن تضبط المنافسة مع الغرب، بالاستناد إلى منهج هسياوبينغ، لتنتزع حصتها المستحقة من تقسيم العمل الدولي في إطار العولمة الراهنة.
يقول الاستراتيجي الصيني العظيم سان تسزو: “أنت، إن لم تخسر الحرب فذاك بفضل حكمتك، لكنك لن تربحها إلا بفضل حماقة خصمك”. إذ تبقى لعبة العولمة لعبة رابح لرابح حتى الآن. وعسى أن لا تنقص الصين الحكمة!
المصدر: النهار العربي