* لعلَّ ظاهرة تأطير الآخَر المُختلِف بمَقولات اختزاليَّة وتنميطيَّة يُعرَّف بها جوهرانيَّاً بوصفِهِ جماعة مُتماسِكة ومُغلَقة وساكنة ومُتعالية، هيَ ظاهرة عالَميَّة تُمثِّل إحدى أخطر كوارث علاقات الشُّعوب والأُمم والأديان والمذاهب والطَّبقات البشريَّة ببعضها بعضاً، ونستطيعُ أنْ نقرأ حولَ هذا الموضوع باتِّساع في دراسات الأدب المُقارَن مثلاً، وفي أبحاث صورة الآخر (الصُّورولوجيا).
* المُصيبة في هذا العُنف المَعنويّ ضدَّ الآخَر أنَّهُ لطالَما أسَّسَ للعُنف المادِّيّ بحقِّهِ، والكارثة الأكبَر حينَما يُشاركُ في هذهِ الجريمة المَعرفيَّة مَن ينبغي أنْ يكون (مُثقَّفاً) ويُفترَضُ أنْ تُعوَّلَ عليه مسائل بناء الوعي لا تزييفهِ، فلا يُكلِّف نفسَهُ عناءَ البَحث بدافعٍ مَعرفيّ موضوعيّ نوعاً ما، أو على الأقلّ انطلاقاً من هوىً ذاتيّ مُسَبَّق يقودُهُ (هذا إذا أحسنّا النَّوايا) إلى الحفر المَعرفيّ والتَّقصِّي لتأكيد اعتقاداتِهِ وأحكامِهِ..
* من النَّماذج الجديرة بالدِّراسة النَّفسيَّة والجمعيَّة والثَّقافيَّة مَسألة اتِّهام الإسماعيليِّين بعبادة فرج المرأة، وهُنا لا أتحدَّث بالتَّأكيد من باب الانتماء إلى هذا المذهب عقائديَّاً، ولا من باب الدِّفاع عنهُ لنيْل شرَف (البراءة) الدِّينيَّة والأخلاقيَّة؛ إنَّما انطلاقاً من ثلاث زوايا محوريَّة:
1_ انتمائي إلى المذهب الإسماعيليّ بالولادة والنَّسَب فحسب، لا بالعقيدة والاعتقاد، وهذا يمنحني ضمن دوائري الهُوِيَّاتيَّة المُركَّبة والمُتراكِبة فرصة الاطِّلاع والمَعرفة من الدَّاخِل أكثر من غيري. مع العلم أنَّ الإسماعيليِّين في سوريَّة والعالَم (هُم المذهب الثَّالث عدداً في الإسلام بعدَ أهل السُّنَّة والشِّيعة الإثني عشريَّة) هُم غابات كاملة من التَّنوُّع العقائديّ والانقسامات والاختلافات والخلافات والتَّعدّديَّة والتَّداخل النِّسبيّ مثلاً بينَ المؤمن والمُلحد أو اللّادينيّ، أو التَّداخُل بينَ من يتطابقُ لديهِ كونَهُ إسماعيليّ في الولادة مثلاً، وإسماعيليّ في العبادة والمُمارَسة العقائديَّة (طبعاً حسب اتِّجاههِ الإسماعيليّ لوجود انقسامات مذهبيَّة كبيرة حتَّى داخل المذهب الإسماعيليّ، وهذا موجود بقُوَّة بينَ إسماعيليِّي سوريَّة أنفسِهِم)، أو التَّداخُل بينَ من هوَ إسماعيليّ بالولادة، وسُنِّيّ أو شيعيّ في العبادة المُمارَسة العقائديَّة. وهذا التَّنوُّع المُركَّب والمُعقَّد نجدُهُ في المنزل الواحد نفسِهِ مثلاً في سلميَة أو مصياف أو القدموس أو نهر الخوابي، وبينَ الأخوة ذاتهم، فضلاً عن أنَّ النِّسبة الأكبَر من الإسماعيليِّين أنفسِهِم لا يعرفونَ الآن عن مذهبِهِم وتاريخيهِ سوى القليل والعناوين العريضة المُبتسرة.
2_ الزّاوية الثّانية التي دفعتني إلى التَّورُّط في هذا الحديث هيَ انتمائي العميق إلى الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، حيثُ لا يُمكنُ أنْ نتطوَّر ونخرج من تخلُّفنا (وهذا جزء من مشروعي الكتابيّ حولَ الهُوِيَّة الحضاريَّة الكُلِّيَّة) من دون قراءة كُلِّيَّة لا تقومُ على نفي الآخَر بناءً على تصوُّرات أيديولوجيَّة مُسَبَّقة؛ إنَّما على الشَّراكة المُجاوِزة للأعراق والمذاهب في بناء هذهِ الهُوِيَّة الثَّقافيَّة الكُبرى، التي كانَ الجميع شُركاء في بنائِها في أوج الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة.
3_ أمَّا الزَّاوية الثّالثة فترتبط بانتمائي المَعرفيّ والمَنهجيّ إلى المَعرفة والرَّغبة (الإنسانيَّة) بتقديم أُنموذج عن كيفيَّة القراءة الرَّصينة (ولا أمتدحُ نفسي هُنا ما عاذ الله)، وضرورة التَّنبيه إلى ضحالة الكثير من مَقولاتِنا الشّائِعة إمّا عن جهل وكسل مَعرفيّ، او عن خبث وتقوقع وعداء مُسَبَّق ضدّ الآخَر المُختلِف، فمن المُفيد أنْ تكونَ هُناك مُحاوَلات جادَّة لتفتيق بِنى الوعي وتقديم مداخل عميقة للمَعرفة الرَّصينة في جميع الأُمور، ومنها المَعرفة التّاريخيَّة والعقائديَّة البعيدة عن تسطيح الأمور واختزالِها وتسخيفِها.
* يقومُ المذهب الإسماعيليّ على عناصر أربعة رئيسة (هذا طبعاً هو العنوان العريض للمذهب، في حين تحتاج التَّفاصيل التَّاريخيَّة والجُغرافيَّة وتحوُّلاتِها العقائديَّة إلى كتب كبيرة وبحث مُوسَّع)..
* تنهضُ على هذهِ العناصر الأربعة في المذهب الإسماعيليّ ثُنائيَّة الظّاهر والباطن بينَ التَّفسير والتَّأويل، وتُبنى الرُّؤية الجوهريَّة الماهويَّة التَّوحيديَّة لله عندهُم على رفض (التَّسمية) ورفض (الصِّفات)، فالله مُنزَّه عن ذلكَ، وهوَ في اعتقاد فلاسفتِهم وفقهائهِم ليسَ أيساً (وجوداً) ولا ليساً (عدماً)، وهذا موضوع طويل وواسِع ومُعقَّد، ومرَّ ببعض المُنحنيات عبرَ القرون والأمكنة.
* أمَّا العناصِر الأربعة الرَّئيسة التي قامَ عليها المذهب الإسماعيليّ، فهيَ بتبسيط واختصار:
1_ الشَّريعة الإسلاميَّة بحجَرَي زاويتِها المحوريين (القرآن الكريم والحديث النَّبويّ)، وبتيَّارها الفقهي المالكيّ (مع وجود خلفيَّة شيعيَّة جعفريَّة تحديداً لا إثني عشريَّة بطبيعة الحال)، وهذا واضح عند المُؤسِّس الأكبر للفقه الإسماعيليّ في الدَّولة الفاطميّة (القاضي النُّعمان) صاحب كتاب (دعائِم الإسلام)، وكتاب (تأويل الدَّعائم).
2_ زاوجَ الإسماعيليُّون بينَ الشَّريعة الإسلاميَّة والفلسفة الإغريقيَّة، ولا سيما نظريَّة الفيض، مُؤسِّسينَ على هذهِ المُزاوَجة حركيَّة الفَهم الوجوديّ والميتافيزيقيّ لديهِم بينَ الثَّابت والمتحوِّل من جانبٍ أوَّل، وبينَ الظّاهر والباطن من جانبٍ ثانٍ.
3_ اعتمدَ الإسماعيليُّون (الغُنوصيَّة/ العرفانيَّة) المشرقيَّة آليَّةً روحيَّة وعقليَّة لبُلوغ الحقيقة التَّأويليَّة للخالق بما هيَ (أي العرفانيَّة) تجرِبة ذاتيَّة تقومُ على (البُرهان) العقليّ المنطقيّ (اللّوغوس) لبُلوغ الحقيقة الغيبيَّة الإلهيَّة المُطلقة أو الكُلِّيَّة.
4_ لم يكُن (التَّصوُّف) في أصل المذهب الإسماعيليّ في العُقود الأُولى من تأسيسِهِ؛ إنَّما امتزجَ مع العرفانيَّة الإسماعيليَّة في مراحل لاحقة، وذلكَ بفعل تحوُّلات وظروف تاريخيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة حدثتْ في مَراحل مُتأخِّرة من تاريخ الدَّولة الفاطميَّة (في مصر أوَّلاً)، ثُمَّ تعمَّقتْ في بلاد فارس بعدَ سُقوط دولة قلعة آلموت، ذلكَ أنَّ ثمَّة اختلاف كبير تقنيَّاً ومعرفيَّاً نادراً ما فهمَهُ الباحثون عرباً وغربيِّين، على الأقلّ بما يخصّ العقيدة الإسماعيليَّة، بينَ بلوغ الحقيقة الإلهيَّة عبرَ (البُرهان) المنطقيّ للتَّجربة الذّاتيَّة عرفانيَّاً، وبُلوغِها عبرَ (الحدْس) في التَّجربة الذّاتيَّة صوفيَّاً، وهُنا يحدث التَّداخل المُركَّب بينَ الإسماعيليَّة والمُتصوِّفين الباطنيِّين في التّاريخ الإسلاميّ.
* هذا مدخلٌ بسيط لنتواضَع جميعُنا (وأقصدُ نفسي قبلَ الآخرين) ، ولنكتشِفَ مَدى جهل مُعظمِنا وكسلهِم المَعرفيّ، وأتركُ لهُؤلاء بعد قراءة هذا المنشور (الطّائفيّ) بامتياز أحد خياريْن:
1_ إمَّا أنْ يُثيرَ لديهِم هذا المنشور إحساساً بالنَّقد الذّاتيّ، وشُعوراً بالقُصور المَعرفيّ، ورغبةً في البَحث والتَّقصِّي ومُحاوَلة الفَهم في جميع الموضوعات والقضايا من دون استثناء.
2_ أو أنْ يستمرُّوا في ترديد الشِّعار الآتي:
(الإسماعيليُّون يعبدونَ فرج المرأة)..
ثُمَّ يمضونَ كالعادة إلى مُتابَعة أفلام البورنو (وأنا هُنا لا أدين من يتابعُها كي لا أفهَم خطأً)، مُعبِّرينَ عن فقرهم المَعرفيّ والثَّقافيّ، وضيق أُفُقِهِم الأخلاقيّ والإنسانيّ، ومَدى خُطورة مكبوتاتِهِم المُختلِفة على أنفسِهِم وأوطانهِم أوَّلاً وأخيراً.
* وكي لا أبدو مُتجهِّماً أكثر من اللّازم، فالمَسألة، أصلاً، هيَ تمرين ذاتيّ على المَعرفة والحوار، أختتمُ بقصَّة يعرفُها كثيرٌ من السُّوريِّين والعرب، ولا سيما في الأوساط الثَّقافيَّة:
كانَ الشّاعر الكبير الرّاحل (علي الجندي) يجلسُ في أحد مقاهي شارع العابد الصَّغيرة ذات الطّاولات المُتقارِبة، بحيثُ إذا صاحَ أحدُهُم، أو رفَعَ صوتَهُ قليلاً سمعَهُ الجميع، وكانَ يجلسُ مسؤول كبير جدَّاً في الدَّولة إلى طاولة مُجاوِرة (يعرفُ الكثيرون من أقصد)، وأرادَ أنْ يُحرِجَ علي الجندي، ويسخرَ منهُ أمامَ الجميع، فقالَ لهُ بصوتٍ مُرتفع:
_ يا أُستاذ علي أريدُ أنْ أسألكَ سُؤالاً.
قالَ لهُ علي: تفضَّل.
فسألَهُ: هل صحيح أنَّكُم أنتُم الإسماعيليُّون تعبدون (الـكـ…..)..
ردَّ علي الجندي بصوت أعلى من صوتِ السّائل، وبنبرة ساخرة قائِلاً:
“بالنِّسبة إلى الطَّائِفة الكريمة فأنا لا أعرف، أمَّا أنا فأعبدُهُ”..
لتثورَ عاصفة من الضَّحك الهيستيريّ في المقهى، وتُصبحَ هذهِ المرويَّة من أشهَر طرائف علي الجندي..
المصدر: صفحة الدكتور مازن أكثم سليمان