عقابٌ إلهيٌّ محتومٌ، مرحلةٌ خطرةٌ، المخاطرةُ كبيرةٌ، ولن أتنازل. هي بعض كلماتٍ مفتاحية، وجهها رامي مخلوف “المتمشيخ” في بثّه الثاني. رسالتاه إلى الجميع؛ وبدءاً بالرئيس بشار الأسد، ومروراً بالشخصيات الأساسيّة في السلطة، وليس انتهاء بالموالين، وطبعاً إلى الدول الخارجية. يأتي كلام رامي، في ظرفٍ حساسٍ للغاية، وكما قال هو: يريدون شطبه، أي يريدون أمواله كاملة؛ فالقضية إذاً ليس أموال ضرائب موجبة التحصيل! والسؤال: لماذا يريدونها الآن كاملة؟ إنها نهاية الحرب، وبداية الصراع على الكعكة، وهناك الضغط الروسي، وبالتالي إمّا أن تُعطَى الأموال لروسيا، المتضرّرة كثيراً من أزمة كورونا وانخفاض سعر النفط، أو هناك تغيير لا بد أن يطاول الرئيس السوري. هنا تصير، مصادرة أموال رامي من أجل هذه الصفقة بالتحديد. ربما يعتقد الأسد أن أموال آل مخلوف ليست لهم لولا تخصيصهم هم بالذات بمشروعات مع الدولة، وقد سمّي بسببها رامي مخلوف “الوكيل الحصري لسورية”، ووالده من قبل “السيد 5 بالمائة”، وبالتالي المال يجب أن يعود إلى الدولة. المتمشيخ لا يعترف بالدولة، ويراها فاسدة بالكامل! كيف لا، وهو من نُقلت إليه وسواه كل أموال الدولة “الشعب” وخصصت من أجله، ضمن سياسات اللبرلة التي اعتمدتها السلطة، وبشكلٍ موسعٍ منذ عام 2000. وبالتالي يقول بوضوح شديد: مالي لن تضعوه في خزينة الدولة، ولصالح الشعب بل تبتغون به إعادة إنتاج النظام، ولصالح جماعاتٍ قريبة من مركز القرار حالياً، وطردي! هذا الطرد هو بالتحديد ما يرفضه رامي، ولو قبلوا به، لما رأينا البثّين المباشرين له، ربما.
تلك الجماعات هي الأسماء التي ذاع صيتها بعد تهميش رامي، وتقدّم دور أسماء الأخرس، كما تشير التقارير الصحافية، وشعور الرئيس نفسه، أن ثروات آل مخلوف كبيرة، وأصبحوا يهدّدون النظام بدرجةٍ معينة، وربما هذا ما دفع النظام إلى إعفاء حافظ مخلوف من منصبه الأمني الحساس في 2014، وأعطى أسماء جديدة الحق “الحصري” بالاستثمارات “مجموعة قاطرجي، وسيم قطان وسامر فوز، ومهند دباغ، ويسار إبراهيم”، وآخرين كثيرين. طبعاً لا يمكن المقارنة بين مكانة رامي، بدوره في الاقتصاد السوري، منذ عام 2000، وهؤلاء. رفضه الامتثال، وإعلان ذلك إعلاميّاً، يُهمش من “الثرثرات” إن أمواله هي في الأصل لآل الأسد، فهي في حقيقتها مال آل مخلوف، وهم شركاء في السلطة والعائلة الحاكمة، منذ 1970. عكس ذلك، إن ضرورة إعادة إنتاج النظام لصالح عائلة الأسد تستدعي أن يتم استعادة الأموال، وإلّا لن تستمر السلطة. هنا المفصل الحقيقي، وهنا التدقيق في الانتقادات الروسية التي تتناول فساد النظام السوري وسوء إداراته، وإن لم تأت الانتقادات من أوساط سلطة الرئيس بوتين مباشرة، وتكمل تلك الانتقادات انتقادات أخرى، تتناول رأس النظام مباشرة، حيث تمّ تحذيره من الاستمرار في العلاقات القوية مع إيران، وأن الأخيرة يجب أن تخرج من سورية، وأن الاتفاقات بين الرئيسين، الروسي بوتين والتركي أردوغان، غير قابلة للانطواء. وضمن ذلك ترفض موسكو زيارة وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، إلى سورية، وتعطي المجال الجوي كاملاً لإسرائيل لقصفٍ كبير وموسع للأهداف العسكرية الإيرانية في سورية.
تكمن خطة الأسد في الاستمرار في العلاقات مع إيران، وقد فشلت بالكامل، لما ذكرنا، ومحاولة تأمين المال لروسيا، للاستمرار في دعمه، مع تجاهله أن الروس، بدأوا يفكرون بما يتعدّى ذلك، أي، باستمرار الرفض الأوروبي والأميركي الحاسم لإعادة إنتاج النظام، وضد رفع العقوبات عنه، وعدم إعطائهم المال للمساهمة في إعادة الإعمار، وقد توقفت الحرب، وهناك رغبة أميركية بالبقاء في سورية، طالما لم تبدأ عملية الحل السياسي. هذا يفسر بعض أوجه معركة الأسد ومخلوف الذي ربما يعي “المرحلة المفصلية” التي يمرُّ بها النظام، وبالتالي يرسل رسالته هذه المرة إلى روسيا، وربما إلى العالم، أن هناك مالاً كثيراً، ويجب دعمه في رفضه ضغوط الأسد، وأنه مستعد لتمويل إعادة الإعمار! هو احتمال ضعيف، ولكن لا يجوز، وقد أصبح مستقبل السلطة على الطاولة، تجاهلها. طبعاً رسائل رامي إلى الموالين واضحة بالكامل، ويبتغي منها تذكيرهم بأنه هو من رعاهم، وليس الآخرون، حينما كانوا بأمسّ الحاجة في أثناء “الحرب”، وهو من سيحميهم في المستقبل كذلك.
تجاهل الأسد، في إطلالته التلفزيونية أخيرا، رسائل رامي، ولكنه حذّر من تداعياتٍ خطر “الجوع والموت” في حالة انتشر كورونا. أما موظفو الدولة السورية “الأشرار” فقد تابعوا قضية شركات رامي، وضرورة تحصيل المليارات، واعتقلت الأجهزة الأمنية بعض رؤساء شركاته. وبالتالي، ردّ الأسد هذا يعني أن العلاقات قُطعت مع آل مخلوف، وهناك مزيد من المتابعة. ولهذا قال رامي إن الوضع أصبح خطيراً، ولن يستسلم.
الآن، الدولة السورية بيد الأسد، وفي مقدوره مصادرة ملكيات آل مخلوف الموجودة في سورية كاملة، لكنه أغلب الظن، وبعد انتقال المعركة إلى العلن، سيحاول الحصول على أكبر كتلة مالية عبر الضرائب، وإغلاق بعض الشركات بحججٍ قانونية. رامي ليس مهيض الجناح، له علاقات إقليميّة ودوليّة متعدّدة، وبالتالي لن يعمد الأسد، وهو في ضعفٍ بادٍ، إلى إدارة الظهر لهذا التعقيد، وإنْ ثمّة حاجة السلطة للمال، وأجنحتها القوية ترغب “بتشليح” رامي وأسرته كل ثرواتهم، المنهوبة طبعاً من الشعب السوري، كما حال كل رجال الدولة السورية. إذاً هناك معركة فعلية، طرفاها رئيس الدولة، وأكبر طفيلي سوري، واعتبارها غير ذات أهمية، أو صراعاً من أجل تلميع صورة الرئيس، ومن هذا “الحكي”، هو إغماض للعين عن صراع الأسد الأب مع شقيقه رفعت، وكذلك قلة تبصرٍ بمآلات رجال كثر في الدولة، أي القتل أو النفي. المعركة حالياً، بين الرجلين، وربما عالميّاً، على مصير السلطة السورية؛ وداخليّاً هي معركة سلطة السياسة والمال، وعدم رغبة أقطابها في فتح ملفات الفساد والنهب الحقيقية والكبيرة، وهذا ما يجعل الصراع حالياً في مراحله الأولى، وهناك فصول مقبلة أخرى، كما أعتقد.
هي مرحلة مفصليّة فعلاً في تاريخ السلطة السورية، ولا تقارن بفترة الثمانينيات أو الصراع بين الأخوين الأسدين حينها، ولا بلحظة خروج الجيش السوري من لبنان، بل هي أخطر مما واجهته بين 2011 و2019. اللحظة هذه محكومة بضعفٍ شديد في السلطة، ومحكومة بضغوطٍ خارجية كبرى، وباحتلالات تقتطع مناطق واسعة من سورية، وهناك رغبات دولية، تعطِي سورية لروسيا، ولأسبابٍ كثيرة، مقابل إحداث تغيير كبير في سلطة الأسد، سيما أن سورية خُربت. هل تحسم روسيا الصراع الدائر في السلطة؟ هذا ما لا يمكن تخمينه بدقة، ولكنه الاحتمال الأقوى؛ وفي هذا، لا تمتلك السلطة قدرة على الاستجابة لسياسات الروس أو خيارات بديلة.
المصدر: العربي الجديد