لا يصعب على أي متابع للمشهد السوري أن يدرك حجم الدعم الروسي لطاغية دمشق، الذي لم يتوانى عن تدمير بلاده وقتل شعبه وتهجير السوريين قسرا، ولكنه حول سوريا الى مصنع للمخدرات ومركزا لتجارتها في المنطقة. لدرجة أن الأمر تم بحثه في مجلس الأمن الدولي.
ولكن ليس الجميع يعرف حقيقة العلاقة بين موسكو وطاغية دمشق.
لطالما تحاورت مع شخصيات سياسية وخبراء روس حول مدى قناعتهم بأن الأسد صديق موسكو وحليفها. فأحدهم وكان عضواً في مجلس الدوما الروسي(البرلمان) سألته هل انت مقتنع بأن الأسد صديقكم وحليفكم، فرد بالنفي وأورد مثلا شعبيا روسيا ليصف به الاسد: “إنه كلب ابن كلب ولكنه كلبنا”.
والمشكلة التي قد يستغربها البعض ولا يمكن فهمها هي فعلا يعاند الأسد موسكو ؟ ولتوضيح الصورة نورد ما يلي :
- قال بشار الأسد في 2011 في مقابلة مع صحيفة الاخبار اللبنانية بأن روسيا تدافع عن نفسها.
- وبعد التدخل العسكري الروسي في سورية عام 2015 ظهرت تصريحات من المسؤولين الروس وخاصة وزير الخارجية لافروف بأنه لولا مساعدة موسكو لسقطت دمشق بيد الإرهابيين! بينما يعتبر الأسد انه هو وجيشه الهزيل انتصروا على المعارضة المسلحة. أما ايران فتقول انه لولاها لسقط الأسد.
- في 2017 زار دمشق دميتري روغوزين نائب رئيس الحكومة الروسية، وطالب من قلب دمشق بـ«الحق المعنوي» للشركات الروسية في سوريا ، وشدد على أن موسكو لن تدخل الاقتصاد بصفة «فاعل خير» أو «دولة مانحة»، بلا مقابل، وأنها لا تنوي التساهل فيما يخص مصالحها وأرباحها حتى إن كان الأمر مع سوريا. وقال إن “قطاع الأعمال الروسي سيحسب كل روبل”.
- وفي عام 2018 وقّعت موسكو مع الطاغية في إطار اللجنة الحكومية المشتركة الروسية السورية للتعاون الاقتصادي والتجاري أكثر من 30 اتفاقية، لم يتنفذ منها الا القليل جدا والسبب هو سلوك الأسد المتذبذب والهيمنة الإيرانية عليه.
- لهذا السبب زار دمشق في أواخر 2020 رئيس الجانب الروسي في اللجنة الحكومية المشتركة يوري بوريسوف وكان حينها نائب رئيس الحكومة الروسية (الان هو رئيس شركة روس اتوم) واتفقوا على توقيع اتفاقيات جديدة عام 2021. وبالفعل عقد اجتماع اللجنة المشتركة في حزيران/يونيو 2021 ولكنه لم يغير في جوهر التعاون الاقتصادي والتجاري لأن الأسد مستمر بتلاعبه والتفافه على الاتفاقيات (طبعا الروس يستحقون هكذا حليف)، باستثناء توقيع اتفاقية استئجار مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً.
- وكلنا يعرف كيف عاند الأسد موسكو في موضوع اللجنة الدستورية. فبداية أرسل وفدا من اكثر من 1000 شخص الى مؤتمر في سوتشي عام 2018 سمي زورا بأنه مؤتمر للحوار السوري السوري (كان الروس في البداية يريدون تسميته مؤتمر الشعوب في سوريا)، لكي يؤيدوا الفكرة الروسية بتشكيل لجنة للإصلاح الدستوري وحينها حضر أيضا بعض ممن يسمو ن انفسهم معارضة (هيثم مناع وقدري جميل واخوانهم..). وكتب الروس مسودة بيان ختامي صادر عن المؤتمر يقترح فكرة تشكيل لجنة دستورية تحت اشراف الأمم المتحدة. وحضر لافروف ليلقي كلمة فقاطعه جماعة(شبيحة) الأسد، وبصعوبة بالغة أكمل كلمته. وعندما بدأ ألكسندر لافرينتيف- المبعوث الرئاسي الى سوريا والمشرف على الملف السوري، وهو من الاستخبارات الخارجية الروسية، بقراءة نص البيان الختامي قاطعه جماعة الأسد، فاضطر لإنهاء الجلسة واعتبر ان البيان تم اقراره.
- وبعدها بأيام تحدث ممثل روسيا في مجلس الأمن فاسيلي نيبينزيا عن مؤتمر سوتشي الذي اتخذ قرارا يوصي بتشكيل لجنة دستورية تحت رعاية الأمم المتحدة، وجاء بعده مباشرة مندوب النظام السوري بشار الجعفري (الان أصبح سفيرا في موسكو) وقال بما معناه نحن نؤيد الإصلاح الدستوري تحت اشراف سوري. وكأنه يرد على المندوب الروسي الذي قال بإشراف الأمم المتحدة. إضافة إلى ان البيان الذي نشر عن اعمال مؤتمر سوتشي في موسكو كان مختلفا عما نشرته وكالة سانا في دمشق. فالبيان الذي نشرته وسائل اعلام النظام لم ترد فيه فقرة ان اللجنة الدستورية يتم تشكيلها تحت رعاية الأمم المتحدة.
- بعد استدعاء بوتين للأسد إلى سوتشي عام 2021 ، زعمت وسائل إعلام النظام بأن الموقف الروسي “نسف” جميع القرارات الدولية والمسارات السياسية من أجندتها وخاصة مسارا أستانا وجنيف، وأن مسألة لجنة مناقشة الدستور لم تعد تحمل أي أهمية بالنسبة للقيادة الروسية، خصوصاً بعد الانتخابات الرئاسية السورية (التي هنأ بوتين الأسد بفوزه الساحق!). فرد رامي الشاعر على ذلك بمقالة مؤكدا فيها أن “الموقف الروسي هو عكس (تلك الادعاءات) تماماً”. وبمناسبة فوز الأسد (الساحق) أخبرني خبير روسي بأن الأسد حصل على 2 مليون صوت فقط (بينما النظام أعلن انه حصل على 13.5 مليون صوتا)
- وفي مقابلته مع قناةRT الروسية ذكر الأسد امرين خطيرين: الأول ان المعارضة الموجودة في اللجنة الدستورية تابعة لتركيا ولا يمكن التفاوض معها، وبذلك فهو ينسف كل موضوع اللجنة الدستورية التي تسعى موسكو جاهدة لإقناع العالم بأنها مفيدة، وتمثل بداية لعمل سياسي. وطبعا هذا وهم وخداع. ولكن الاسد يحرج حليفته موسكو. والامر الثاني هو قول الأسد بأن الظروف في سورية غير آمنة لعود ة اللاجئين بينما موسكو تصرح بأن الحرب انتهت والظروف أصبحت مناسبة لإعادة الاعمار وعودة اللاجئين وهي تبذل جهودا كبيرة لإقناع العالم بضرورة المساعدة في إعادة اللاجئين السوريين وتأمين بعض الخدمات لهم.
- ومؤخراً سمعنا بأن الكسندر لافرينتيف الذي زار دمشق في 20 أكتوبر/تشرين الأول الحالي التقى مع الأسد مع وفد من رجال الأعمال الروس الذين يريدون البدء ببعض المشاريع الاقتصادية، ولكن مسؤولي النظام طلبوا من الوفد ان تقدم روسيا مساعدات إنسانية أولاً وبعدها تقوم بتنفيذ مشاريع اقتصادية. والحقيقة لا نستغرب موقف النظام ومعاندته لموسكو ولكن الغريب هو تحمل الروس لهذه السلوكيات بالرغم من كل ما قدموه للأسد حتى يبقى جالسا في دمشق إلى اليوم.
وهنا نتساءل. هل شكوى الروس من تعامل الأسد حقيقة ام مسرحية. صحيح ان الأسد يميل الى نظام الخميني أكثر من روسيا ويشير الروس إلى ذلك، ولكن هل الوجود الروسي العسكري والأمني والاقتصادي والثقافي في سورية شكلياً إلى هذه الدرجة وغير مؤثر؟
نعرف أن الاتحاد السوفيتي كان يهتدي في سياسته الخارجية بنشر الأيديولوجية الشيوعية في العالم، وكان يقدم المساعدات السخية لحلفائه ومنهم نظام الأسد، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 نشأت دولة جديدة دستورها ليبرالي هي روسيا الاتحادية بسياستها البراغماتية التي تضع المصلحة فوق كل الاعتبارات.
ولكن ماذا يحدث لموسكو في سورية؟ هل هي بالفعل عاجزة عن ضبط الأسد وفرض سياستها عليه، خاصة وأنها بالفعل هي التي حافظت على نظام الطاغية. وهل ثمن ذلك فقط إقامة قاعدتين عسكريتين؟
إذا كان الامر كذلك، سياتي يوم ويقول الأسد لموسكو أخلوا القواعد من فضلكم. فماذا ستفعل حينها موسكو. وقد قالها خالد العبود ردا على المقالات التي نشرت بوسائل الاعلام الروسية عام2020 وفضحت فساد النظام وضعف إدارة الأسد وجرائم ماهر الأسد، فتوعّد العبود القوات الروسية في سوريا، بشن حروب عسكرية ضدها، من الساحل السوري إلى جنوب سوريا. وأضاف بأن بوتين أضحى بحاجة ماسة لبشار الأسد بسبب منحه ما أراد أن يمنحه إياه، كي يحافظ على المصالح روسيّة لبوتين في سوريّا، وهذا إنجازٌ لبوتين داخل روسيا ذاتها، وبوتين يسعى جاهداً للحفاظ عليه”. وعنوان مقالة العبود لافت جداً : ماذا لو غضب الأسد؟
وكيف لموسكو ان تقدم كل هذا الدعم الهائل لنظام الأسد المستبد الفاسد وهي غير واثقة من وفائه لها . فهي لا تعتبره حليفاً ولا صديقاً لها. وأكد ذلك لافروف مرارا في لقاءاته مع وفود المعارضة السورية التي زارت موسكو ، وكنت شاهدا على ذلك.
المصدر: سوريا الأمل