هل تستطيع روسيا الاستمرار في الإنفاق على حرب أوكرانيا؟

إبراهيم نوار

مع اقتراب فصل الشتاء فإن صعوبة تحرك القوات المتحاربة، ونقل المعدات من موقع إلى موقع، من شأنه أن يزيد احتمالات أن تتحول الحرب الأوكرانية، بأوامر من «الجنرال ثلج» إلى حرب مواقع ثابتة، تعتمد على كثافة استخدام الصواريخ وطائرات «الدرونز» والمدفعية، مع استمرار احتمالات لجوء أوكرانيا إلى شن نوع من «حرب العصابات» أو تنفيذ «عمليات إرهابية» متقطعة ومتفرقة، على المواقع الروسية وقوات الأقاليم المنشقة، من أجل المحافظة على قوة الدفع الذاتي للقتال. استمرار الأعمال القتالية هو ما يبرر لحكومة وقوات كييف طلب الحصول على المزيد من الدعم المالي والاقتصادي والعسكري السخي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ودول حلف الناتو عموما؛ فدائما ما تنمو على جناح الحرب كائنات طفيلية تتربح منها، وتكون لها مصلحة في استمرارها. وفي حال تحول المواجهة في أوكرانيا إلى حرب مواقع ثابتة، فسوف تطول الحرب، كما طالت حرب المواقع الثابتة بين العراق وإيران في ثمانينات القرن الماضي، وسينتج عن ذلك كمية هائلة من الدمار، تدفع فيها أوكرانيا ثمنا فادحا. وربما أيضا ستتضرر المدن الروسية القريبة من خط الحدود مع أوكرانيا ومدن الأقاليم التي ضمتها روسيا أخيرا.

دخول قوات من روسيا البيضاء أو مشاركتها من داخل الحدود في العمليات، سيضيف دعما إلى القوات الروسية التي تواجه مقاومة في الجنوب والشرق، لكنه ليس من المرجح أن يغير مسار الحرب أو التوازنات الحالية، التي تعتمد فيها أوكرانيا على مدد عسكري واقتصادي غير محدود. رهان الولايات على إطالة أمد الحرب يقوم على فرضية أساسية، هي إن روسيا ستعجز عن الاستمرار في تمويلها، تحت تأثير الحصار والعقوبات الاقتصادية، ولن تجد أمامها خيارا أفضل من الانسحاب من جانب واحد. فإلى أي حد يمكن أم تكون هذه الفرضية صحيحة؟

التوسع العسكري الروسي وتحدي التمويل

في الشهر الماضي نشر معهد «كينان» التابع لمركز «ويلسون» الأمريكي، دراسة تتناول قدرة روسيا على تمويل الحرب، خالفت نتائجها وجهات النظر الدارجة في الخطاب الإعلامي الغربي في هذا الشأن. الدراسة قالت إن روسيا استطاعت خلال العقدين الأخيرين منذ عام 2000 حتى الآن، تحقيق فوائض مالية ضخمة، نتيجة ارتفاع أسعار البترول من 28 دولارا عام 2000 إلى أكثر من 100 دولار للبرميل. وقد استخدم بوتين هذه الفوائض في ثلاثة اتجاهات: الأول هو سداد كل الديون المستحقة على روسيا لنادي باريس في عام 2007 قبل موعدها، والثاني هو إنشاء صندوق الاستثمار الخارجي المباشر عام 2011 على غرار الصندوق السيادي النرويجي، وهو ما أضاف لروسيا قوة اقتصادية مهمة، حيث تصل نسبة مساهمة عائداته حاليا إلى 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتشارك في مشروعات الصندوق طويلة الأجل 15 دولة تقريبا، باستثمارات تبلغ حوالي 40 مليار دولار. ومن بين الدول المشاركة، الصين والسعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين وفرنسا وإيطاليا. أما الاتجاه الثالث لاستخدامات الفوائض المالية فقد تمثل في زيادة الإنفاق العسكري، لمقابلة احتياجات إعادة بناء القوة العسكرية الروسية.

وطبقا للمعهد الدولي لدراسات السلام «سيبري» في ستوكهولم، فإن الإنفاق العسكري الروسي في عام 2000 بلغ 9.23 مليار دولار، لكنه بعد عشر سنوات قفز بنسبة 700 في المئة إلى 65.9 مليار دولار. ومع أن هذه القيمة تعادل أقل من 10 في المئة من الإنفاق العسكري الأمريكي، فإن الملاحظة الملفتة للانتباه، هي معدلات الزيادة السنوية السريعة جدا، التي تؤكد أن بوتين كان يخطط منذ 10 سنوات لإعادة بناء الآلة العسكرية الروسية وزيادة إمكاناتها، وهو ما ساعده على ضم القرم عام 2014 وإنشاء قاعدة جوية ضخمة في سوريا وتعزيز وجوده العسكري هناك في العام التالي. وعلى الرغم مما يتردد بأن روسيا تواجه مصاعب مالية، فإن الأداء الاقتصادي، ومستوى أسعار النفط والغاز، ونجاح روسيا في تجنب تأثير العقوبات إلى حد كبير، يشير إلى استمرار قدرتها على تمويل الحرب، عند المستويات الراهنة لمدة عامين على الأقل، وذلك على الرغم من أن الاقتصاد يمكن أن ينكمش بنسبة صغيرة.

وكانت الحكومة الروسية قد وضعت سعر الأساس لتصدير النفط في الميزانية عند 60 دولارا للبرميل، ووضعت خطط الإنفاق على أساس سعر توازني يتراوح بين 40 إلى 45 دولارا. وفي ظروف السوق الحالية، وعلى الرغم من أن روسيا تبيع منتجاتها بنسبة خصم عالية، فإنها ما تزال قادرة على تحقيق نوع من التوازن في الميزانية. غير أن هذا التوازن سيظل مهزوزا حتى نهاية العام المقبل. ومع تأثير الانكماش فإن الميزانية قد تتعرض لعجز متزايد، ومن ثم تقل مساحة هامش المناورة الذي تستطيع أن تتحرك فيه الحكومة، وهو ما يمكن أن يشكل ضغطا عليها، ويفرض قيودا على القدرة على التمويل في عام 2024. ومع ذلك فقد استخدمت الحكومة الروسية خلال العام الحالي سلة من المعايير المالية والنقدية والتجارية، ساعدت على وقف انهيار الروبل، وتخفيض معدل التضخم وأسعار الفائدة، وفتحت أسواقا جديدة كبيرة للتصدير مثل السوق الهندية. وقد صرح مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف في الشهر الماضي، بأن حجم التجارة بين روسيا والهند ارتفع بنسبة 120 في المئة في العام الحالي، نتيجة لزيادة صادرات روسيا من النفط والفحم والأسمدة. وستظل روسيا على الجانب الإيجابي من القدرة على الاستمرار في تمويل الحرب، طالما بقيت أسعار النفط فوق 60 دولارا للبرميل، ونجحت في المنافسة في سوق الغاز المسال، لتعويض الحظر على إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، مع الاستمرار في إيجاد أسواق بديلة للغاز الطبيعي، مثلما حدث بعد تشغيل خط «قوة سيبيريا». ويمثل الاقتراح الأخير، الذي عرضه بوتين على الرئيس اردوغان، بأن تتحول تركيا إلى مركز عالمي لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر خط السيل التركي، بديلا عن خط السيل الشمالي، صيغة مهمة لضرب مقاطعة الغاز الروسي في أوروبا. الخط التركي يمكن أن يلعب دورا حيويا في حماية دول جنوب ووسط أوروبا على وجه الخصوص من برد الشتاء في الأشهر المقبلة، لأنه موجود وجاهز ويعمل بالفعل، وسوف تستفيد منه بسرعة دول مثل المجر ورومانيا وألبانيا.

أهمية المساعدات الأمريكية لأوكرانيا

تدفع كل من روسيا وأوكرانيا تكلفة باهظة للحرب التي تقترب من نهاية شهرها الثامن، فتكلفة الحرب باهظة في كل الأحوال، سواء كنا نتكلم عن الخسائر البشرية أو الاقتصادية أو العسكرية. حرب أوكرانيا التي ربما اعتقد فلاديمير بوتين أنها ستنتهي خلال أسابيع قليلة بإسقاط نظام الحكم «النازي الجديد» في كييف، لا توجد أي مؤشرات تدل على أنها ستضع أوزارها قريبا. الدول التي تساعد أوكرانيا وعلى رأسها الولايات المتحدة تعلن الآن صراحة أنها لن تسمح لبوتين أن ينتصر. وتذهب بريطانيا إلى ما هو أكثر من ذلك، قائلة بأن الرئيس الروسي يجب أن يسقط. أوكرانيا حصلت على أسلحة بقيمة تتجاوز 17 مليار دولار من الولايات المتحدة، و4 مليارات من بريطانيا، وغيرها من ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي بهدف إطالة أمد الحرب، التي يتردد أنها تكلف روسيا مليار دولار يوميا، وتكلف أوكرانيا خسائر اقتصادية فقط بما يعادل 20 مليار دولار شهريا. وتقدر الدراسة التي أعدتها كلية الاقتصاد في العاصمة الأوكرانية كييف أن تكلفة إصلاح الخسائر أو إعادة البناء في الأشهر الستة الأولى من الحرب تصل 200 مليار دولار. هذه التقديرات لا تأخذ في اعتبارها التحولات التي طرأت في الشهرين الأخيرين من حيث التركيز على استهداف البنية الأساسية، بما في ذلك محطات الكهرباء، وصهاريج الوقود، ومحطات وخطوط السكك الحديد والطرق والجسور الرئيسية والمدن الصناعية، كما لا تأخذ في الاعتبار تعويض الخسائر غير المباشرة. وقد ارتفعت أخيرا تقديرات إعادة بناء ما دمرته الحرب إلى حوالي 750 مليار دولار. الهجمات الصاروخية الكثيفة التي تشنها روسيا على عشرات المدن الأوكرانية تشير إلى تطور خطير في أهداف العمليات، بعد الانفجار الذي وقع على الجسر الوحيد الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم. في المرحلة الأولى من الحرب استهدفت روسيا البنية الأساسية العسكرية فقط، لكنها الآن تستهدف كذلك البنية الأساسية المدنية والاقتصادية، وهذا من شأنه ان يزيد من حدة الخسائر.

من يدفع تكلفة استمرار الحرب؟

وهكذا فإن الحرب يمكن أن تستمر لسنة أو لعدة سنوات، طالما استمر تدفق المساعدات العسكرية والاقتصادية من الولايات المتحدة وحلف الناتو على أوكرانيا. كذلك تستطيع روسيا أن تواصل عملياتها العسكرية لمدة عامين، وربما أكثر من ذلك، إذا استمرت في ابتكار صيغ جديدة لحماية الروبل وسوق الأوراق المالية المحلية من الهبوط، والنفاذ إلى أسواق جديدة للتصدير، حيث أنها تحتل مكانة عالمية حاكمة في أسواق سلع غذائية وصناعية رئيسية، مثل القمح ومحاصيل العلف والبذور الزيتية، والأسمدة والحديد والألومنيوم، إضافة إلى الذهب والنفط والغاز. لكن استمرار الحرب يحمل نذرا بالشر لشعوب البلدان النامية والدول الصناعية على السواء. الدول النفطية بدون قصد، وشركات السلاح الأمريكية، بقصد، هي المستفيد الأكبر من استمرار الحرب.

وتشير أحدث تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن حرب أوكرانيا ستكلف الاقتصاد العالمي حتى نهاية العام المقبل حوالي 2.8 تريليون دولار. وأن التكلفة ستزيد عن ذلك إذا واجهت أوروبا نقصا في إمدادات الطاقة في شتاء العام الحالي. كما أظهرت تقديراتها أن معدل نمو الاقتصاد العالمي سيبلغ بنهاية العام الحالي 3 في المئة بدلا من 4.5 في المئة في التوقعات السابقة للحرب، كما سيتراجع معدل النمو في العام المقبل إلى 2.2 في المئة بدلا من 3.2 في المئة، ما يعني أن الحرب ستؤدي إلى خسارة ثلث معدل النمو الاقتصادي العالمي في العامين الحالي والمقبل. وعلى صعيد تأثير الحرب على تكاليف المعيشة، قدر المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا أنها سترفع معدل التضخم العالمي بنسبة إضافية تبلغ 3 في المئة. وهو ما يعني زيادة تكاليف المعيشة على مستوى العالم ككل.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى