في فهم الديمقراطية (الحالة الحزبية السورية نموذجاً)

حسن النيفي 

على الرغم من قِدَم وشيوع مفهوم (الديمقراطية) على نطاق عالمي واسع، إلّا أن التعاطي الفعلي مع هذا المفهوم ظل مرهوناً بأمرين: أولها السياقات الوظيفية التي حاولت تطبيعه وفقاً لمساراتها السياسية والرغبوية. وثانيهما المحاولات الدائمة لتفكيكه وإفراغه من محتواه، ثم قبوله وتبنّيه مشوّهاً فاقداً لقيمته.

عن الحالة الأولى يمكن الحديث عن كيفية تعاطي الأنظمة الشمولية ذات التوجه الاشتراكي والمشابهة لها، مع مفهوم (الديمقراطية)، حين انتزعته من سياقه الفلسفي والثقافي الليبرالي، وحاولت توظيفه توظيفاً عكسياً لخدمة سلطتها المركزية، ووفقاً لهذا الاتجاه يصبح مصطلح (الديمقراطية الشعبية) هو الأنسب للأنظمة ذات حكم الحزب الواحد، والرئيس القائد إلى الأبد، لأن الديمقراطية الشعبية تعني الإرادة الجمعية للشعب، وتتجاوز الإرادات الفردية. وفي الحالة الثانية، نشهد منذ بداية القرن التاسع عشر – محاولات حثيثة لتأصيل مفهوم (الديمقراطية) من خلال مقارنة بعض محتوياته بمعطيات أخرى من داخل المنظومة الفقهية الإسلامية، ووفقاً لهذا التفكير، يصبح قبول أو رفض مفهوم الديمقراطية مرهوناً باقترابه أو ابتعاده عن مفهوم (الشورى)، وذلك بحسب تعدد تفسيرات الفقهاء لهذا المفهوم.

ما يجمع بين الحالتين السابقتين ناظم فكري واحد، يتمثّل في كون (الديمقراطية) هي معطى ثقافي وفكري غربي، ونتاج سياق حضاري مغاير لواقع العرب والمسلمين، وبالتالي لا بدّ من إخضاع هذا الوافد للتفكيك والتدقيق في محتوياته، بغية تنقيته من عناصره الضارة، والاكتفاء بما هو مفيد منه وحسب، هذا يعني بالنتيجة سيادة الفهم الانتقائي ، وغياب الاستيعاب المعرفي والثقافي لمفهوم الديمقراطية.

ولعل من غير الخفيّ، أن هذه الطريقة من التعاطي مع مفهوم (الديمقراطية) كانت نتيجة دافعين مضمرين، الأول تبريري، يهدف إلى تسويغ الممارسة الاستبدادية للسلطة، وإيجاد نوع من المشروعية السياسية للحكم الفردي الشمولي. والثاني عقدي، يجسّد رفضاً مضمراً للتفاعل الفكري أو الحضاري مع أي معطى من خارج المنظومة الإيديولوجية التي ينتمي إليها الفرد.

2 – في الممارسة الديمقراطية:

ولو تجاوزنا طبيعة وكيفية تعاطي السلطات الحاكمة ومَنْ هم في فلكها، إلى طبيعة وكيفية تعاطي القوى الاجتماعية الأخرى مع مفهوم الديمقراطية، ونعني بذلك الأحزاب والكيانات السورية المناهضة للسلطة، والتي من المفترض أن يكون أحد أهم أسباب تهميشها وإقصائها، بل وتذويبها هو غياب الديمقراطية، لوجدنا في خطابها وأدبياتها إلحاحاً شديداً على المطلب الديمقراطي، إلّا أن هذا النزوع نحو مقاربة العملية الديمقراطية لم يتجاوز – في معظم الأحيان – المستوى الإعلامي والورقي، وقلّ أن تجسّد في سلوك برامجي حزبي سياسي. ولفهم هذه الازدواجية بين الخطاب والسلوك، لا بدّ من الوقوف عند أمرين اثنين:

1 – إن معظم قوى وأحزاب المعارضة السورية التقليدية تنحدر من إيديولوجيات لم يكن الطرح الديمقراطي فيها طرحاً أصيلاً، (الشيوعيون – القوميون – الإسلاميون)، إذ كان التركيز الأكبر لهذه الأنماط من الإيديولوجيا على النزعة (الإمبراطورية للدولة)، متجاوزةً المنظومة الحقوقية للأفراد والمكوّنات الاجتماعية المختلفة والمتنوعة في المجتمعات.

2 – لعلّ معظم المحاولات التي أجرتْها بعض القوى والأحزاب في مراجعة مسارها الفكري والسياسي لرأب تصدّعاتها أو لعلاج أمراضها المزمنة، بغية إعادة إنتاج ذاتها من جديد، بما يمكّنها من الاستمرار في الحياة، أقول: معظم تلك المحاولات – على أهميتها – لم تتسمْ بالجرأة الكافية والنقد المعرفي الخالص الذي ينتشلها من إرثها ومسلماتها الماضوية إلى واقع معرفي جديد يستند إلى معطيات حياتية جديدة، وليس مُرتهَناً بثوابت الإيديولوجيا.

3 – لعله من الصحيح، أن العديد من الشرائح اليسارية تجاوزت راهنها الإيديولوجي الشيوعي، وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، الذي تزامن مع ظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد على أعقاب حرب الكويت 1991، وأصبح خطابها السياسي منزاحاً أكثر نحو استلهام الليبرالية، فباتت شعاراتها تتمحور حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك حقوق الأقليات في تقرير مصيرها، إلّا أن هذا الخطاب الرغبوي لم يتزامن مع قطيعة بنيوية مع رواسب الإيديولوجيا التي ظلت كامنة في عقول ونفوس الكثير من الكوادر الحزبية التي لم تغادر مكانها، بل ظلت ممسكةً بمفاصل القرار في العديد من القوى والأحزاب، على الرغم من تغيّر خطابها ومحتوى أدبياتها.

ولم يكن واقع القوميين بأفضل حالاً، إذْ ما يزال قسم كبير منهم يراهن على بعث الأمة ووحدتها، ومازال راسخ الاعتقاد بأن عراقة أصله وتاريخه كفيلة بانتشاله من راهنه المقيت، متجاهلاً أن عوامل قهر الأمة وإذلالها لا يمكن أن تكون عوامل خلاصها ورقيّها بآن معاً. أما الإسلاميون فلعلّهم الأكثر إثارةً لأذهان السوريين حين كرروا في أكثر من وثيقة لهم قبولهم بتداول السلطة ومبدأ التعددية، وكان دخولهم في إعلان دمشق حدثاً مثيراً عام 2007 ، إلّا أن السلوك السياسي للإسلاميين سرعان ما أفصح عن فهمهم وقناعتهم للمسألة الديمقراطية، والتي لا تتجاوز (صناديق الاقتراع)، ما يعني أنها من الناحية العملية، هي فن الوصول إلى السلطة، بأية طريقة كانت، ولعلّ ممارسات الإسلاميين في الكيانات الرسمية للمعارضة بعد انطلاقة الثورة، وكذلك ممارساتهم حيال الواقع العسكري والإغاثي في الداخل السوري، تؤكد أن مفهوم الديمقراطية لا يتجاوز في كثير من الأحيان، النزوع البراغماتي الذي بات السمة المميّزة للإخوان المسلمين في سورية.

 بعد انقضاء أكثر من عقد على انطلاقة الثورة السورية نشهد إقبالاً كبيراً للسوريين، مثقفين وأحزاباً وجماعات، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، نحو الحديث عن أسس العمل السياسي الديمقراطي المشترك، وعن إمكانية إنشاء تحالفات بين القوى الديمقراطية، بغية التصدّي للراهن العصيب الذي تواجهه القضية السورية، ولا أعتقد أن هذا الإقبال كان سيحصل بهذا الزخم لولا الكشوفات المعرفية العظيمة للثورة السورية، ولعلّ من أهم تلك الكشوفات أن منظومة القيم واحدة، لا تتجزأ، ذلك أن المجتمعات ذات التجارب النسبية الناجحة ديمقراطياً، على مستوى الإدارة السياسية للبلاد، قد حققت نجاحات موازية في الحفاظ على حقوق الإنسان كاملة غير منقوصة، وكذلك في تحقيق مبدأ المواطنة والعدل والمساواة، وحق الاعتقاد والتعبير، وحقوق المرأة ..إلخ، فهل بمقدور القوى السورية الطامحة نحو الحرية والديمقراطية، الانفتاح الجريء والواعي نحو فهم المنظومة القيمية للديمقراطية دون اجتزاء أو تشويه. نقيض الدائم للممارسة الديمقراطية الصحيحة.

 

المصدر: موقع المجلس العسكري السوري

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى