مهما يُطلق من وصف على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية، أو تقاسم المنطقة الاقتصادية الخالصة، على أنه انجاز تاريخي، قدّم لبنان ما يشبه الاعتراف بحدود نهائية عبر تنازلات لم يكن “حزب الله” بعيداً منها، وهو الذي هدّد عبر طائراته المسيّرة إشعال الحرب حتى ما بعد كاريش، وكأن ما حدث تبادل مصالح لا معنى للشعار السيادي معها.
يشير سلوك “حزب الله” في هذا الملف إلى حدوث متغيرات في سياسته برعاية إيرانية، فهو لم ينتظر توقيع الاتفاق النهائي ولم يقدم مطالعته حول الترسيم النهائي للحدود البحرية الاقتصادية الخالصة، بل أعلن على لسان أمينه العام حسن نصرالله أنه يقف وراء الدولة في موقفها. وبما أن لبنان الرسمي أعلن موافقته على الصيغة النهائية للمقترح الأميركي، فقد رمى الحزب كل شعاراته الحربية التي كانت مرفقة بالتهديدات تحت عنوان “الحفاظ على ثروات لبنان البحرية” ووقف وراء رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون في إعلان الموافقة التاريخية، ولم يكترث لما ورد في نص الاتفاق حول “الحقوق الإسرائيلية” في حقل قانا (البلوك 9) والضمانات المقدمة لإسرائيل في الحدود البحرية.
المفارقة أنه لم يكن ممكناً للبنان الرسمي الموافقة على الاتفاق في صيغته الأميركية النهائية، من دون إجازة “حزب الله”، فإذا بالملاحظات اللبنانية على نص الاتفاق ذهبت إلى تدوير الزوايا، بحيث اعتبر لبنان أنه حصل على ما يريد وحقق نصراً في التفاوض، فيما إسرائيل أيضاً حققت غاياتها للبدء بعملية استخراج الغاز من حقل كاريش، وكرست حقوقاً لها في حقل قانا وإن كانت عبر شركة “توتال” التي تحظى بدعم دولي وخصوصاً أميركي – فرنسي. أما الملاحظات الأمنية المرتبطة بالسيادة، فباتت من الماضي بعد تكريس خط العوامات أو الطفافات الإسرائيلية التي وضعتها إسرائيل بعد انسحابها من جنوب لبنان في عام 2000، خطاً حدودياً أزرقَ ونهائياً للحدود البحرية الإسرائيلية، وباتت معه الحدود عصية على أي اختراق ويمنع أي تصعيد أو مواجهة في المنطقة البحرية بين لبنان وإسرائيل.
أدارت واشنطن عملية التفاوض بالضغط على كل الأطراف، خصوصاً الحكومة الإسرائيلية، وانتزعت موافقة لبنانية تصب في خدمة الطرف الإسرائيلي الذي يواجه الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، ليتكرس الاتفاق بضمانة أميركية أولاً وإن كانت سترسل نسخة من النص إلى الأمم المتحدة. وإذا كان الإشراف الأميركي هو الأساس، فإن التوجيهات الإيرانية لـ”حزب الله” كانت حاسمة في ما يتعلق بموافقته، لأسباب لها علاقة بالمأزق الإيراني في المنطقة كلها وانفراط حاضنتها الأوروبية إضافة إلى انشغالها بالداخل، لكن يتبين في المقابل أن الاتفاق شكل مخرجاً لـ”حزب الله” المربك في طريقة تعامله مع الشعارات الكبرى والسقوف التي رفعها للمواجهة مع إسرائيل، لينتهي الأمر بالتمترس وراء موقف ميشال عون لاستثماره داخلياً، وليخفي في الوقت نفسه الأزمة التي يعانيها.
في الواقع ثمة متغيّرات تحدث لدى “حزب الله” في ما يتعلق بالوضع الداخلي اللبناني. الأساس في ذلك هو ما بات معروفاً بأن أي حرب يخوضها أو مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي قد تكون مدمرة للبنان بصرف النظر عن قدرته على إطلاق الصواريخ أو الصمود في وجه الحرب الإسرائيلية، فتوازنات القوى في المنطقة ليست اليوم لمصلحة إيران التي باتت محاصرة حتى من أقرب حلفائها الدوليين، وهي تتراجع في سوريا والعراق وحتى في اليمن، لذا سيكون التفريط بقوة “حزب الله” حليفها الرئيسي أو ذراعها في لبنان بمثابة انتحار ونزع آخر أوراقها. وعلى هذا تأتي موافقة الحزب على اتفاق الترسيم بمثابة تراجع عن شعاراته الكبرى وأهدافه لا بل هي بمثابة خضوع للشروط الأميركية حين تمكن الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين من صوغ نص بتدوير الزوايا يظهر أن لا أحد يخسر فيه، لكنه في واقع الأمر اتفاق دجّن “حزب الله” وسحبه من خط الجبهة إلى مواجهة وضعه في الداخل اللبناني، وهو ما بدأ باستثماره بداية بعد تخليه عن حليفه ميشال عون وتياره “الوطني الحر”.
موافقة “حزب الله” على اتفاق الترسيم تظهر وكأنه أبرمه مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية. هذا يشير إلى أنه سيكون للحزب استهدافات مقابلة في الداخل للحصول على مكاسب في الاستحقاقات اللبنانية المقبلة طالما أنه المقرر في الملفات الأساسية. وانطلاقاً من ذلك تؤشر لهجة الحزب السياسية الداخلية الهادئة للقول إنه صاحب كلمة الفصل في مختلف القضايا بالتوازي مع حضوره في أي مفاوضات خارجية بشأن لبنان، لذا سيكون هو المقرر أو المساهم الرئيسي في اختيار اسم رئيس الجمهورية، وأيضاً الحاسم في التوازنات وموازين القوى في حال الفراغ، قبل الوصول إلى حل نهائي خارجي لمشكلات البلد، بما في ذلك تحديد وظيفة سلاحه ومهماته في المرحلة المقبلة.
في حال إقرار اتفاق الترسيم بصيغته النهائية بعد التوقيع، لن يكون بمقدور “حزب الله” التحرك في المنطقة البحرية، وهو كأنه رمى ثقلاً عن كاهل بنيانه، ولا يُصرف الكلام عن أن لبنان أنجز الاتفاق بقوة المقاومة وهو نصر لها، إذا اعتبرنا أن التنازل اللبناني تدرج من الخط 29 إلى الخط 23 وصولاً إلى تثبيت خط الطفافات الإسرائيلي كحدود بحرية، لذا سيسعى الحزب ليعوض إذا كان ذلك متاحاً عندما يصل البحث إلى الحدود البرية بتوظيف سلاحه وقوته إلى حين انتهاء اعتبار لبنان ساحة إيرانية لمواجهة إسرائيل وقبلها كان ساحة سورية، وإن كانت المقاومة تمكنت من دحر الاحتلال في عام 2000، لكن السنوات التي تلتها لم تكن لبنانية صافية.
لم يتمكن “حزب الله” ولا إيران من الوقوف في وجه الإصرار الأميركي على إنجاز الترسيم. هنا تظهر قدرة الولايات المتحدة على الإمساك بكل الملفات الإقليمية المرتبطة بمصالح دولية. قدرة الأميركيين على فرض ما يريدون وإخضاع من كان حتى الأمس القريب يرفع شعارات “البحر لنا” تحتاج إلى مزيد من البحث، طالما أنه لم يعد السلاح الممانع هو المقرر في هذا الشأن…
المصدر: النهار العربي