اتفاق الترسيم..سقطة تاريخية ليس إلا !

ساطع نور الدين

مهما حسُنت النوايا أو ساءت الظنون، لا يمكن أن يُقرأ الإتفاق النهائي على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية إلا على النحو التالي: قدم لبنان هدية مالية لإسرائيل تقدر بنحو 500 مليون دولار، هي بمثابة تبرع في حملة الائتلاف الاسرائيلي الحاكم برئاسة يئير لبيد، للفوز بالانتخابات العامة المقررة في الأول من تشرين الثاني المقبل، وتعهدٍ خطيٍ بفتح باب المفاوضات حول تقاسم مختلف الحقوق الاقتصادية المتبادلة أو المشتركة، والتي يمكن ان تؤدي لاحقاً الى مفاوضات سياسية تدور حول التطبيع العلاقات الثنائية، وصولا الى معاهدة سلام طال ترقبها.

في التفاصيل المعلنة والمنشورة في إسرائيل، والتي عرضت على الاجتماع قبل الاخير للمجلس الوزاري المصغر، ان حقل قانا يحتوي على كميات من الغاز تقدر قيمتها بنحو ثلاثة مليارات دولار، حصة إسرائيل منها هي 17 بالمئة، أي ما يعادل نصف مليار دولار، تكفلت شركة توتال الفرنسية بتحصيلها من الجانب اللبناني، بناء على اتفاق رسمي، يجري التفاوض حوله بين تل أبيب وباريس الآن، ويمكن ان يصبح ناجزاً خلال اسابيع، أي قبل ان تباشر الشركة الفرنسية بالحفر في مكامن الحقل اللبناني. أما حقل كاريش الاسرائيلي، فإن التقديرات تشير الى احتوائه على ما يزيد عن 30 مليار دولار، من الغاز الذي بدأت إسرائيل بالفعل في استخراجه قبل أيام، وسيصبح في الاسواق خلال أيام أيضا.. وسيدرك الناخب الاسرائيلي عوائده المالية قبل ان يتوجه الى صناديق الاقتراع بعد أسبوعين ونيف.

بإخلاصٍ شديدٍ، وتفانٍ تامٍ، عمل الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين، على إنجاز الاتفاق ليكون تصويتاً مباشراً من إدارة الرئيس جو بايدن لصالح الائتلاف الاسرائيلي الحالي، ولتفادي صداع عودة حزب ليكود برئاسة بنيامين نتنياهو الى السلطة.. بينما شاع في بيروت منطق فارغ مفاده أن واشنطن استعجلت الاتفاق “التاريخي” لكي تستبق الفراغ الرئاسي المتوقع في لبنان، وتوفر للبنانيين فرصة الأمل بوقف الانهيار الاقتصادي والمالي.. والكهربائي ربما عندما ترفع القيود عن استيراد الغاز المصري، الذي قد يكون مصدره إسرائيلياً، أو حتى من حقل كاريش بالذات!

لكن الجمهور الاسرائيلي ليس ساذجاً، ولا يُخدع بسهولة، وهو  سيأخذ الهدية ال500 مليون اللبنانية بكل سرور، لكنه قد يصوت لنتنياهو، الذي شُتم في واشنطن أكثر مما شُتم في تل ابيب عندما عبر عن موقفه الانتهازي الرافض للاتفاق مع لبنان الذي يحظى بغالبية ساحقة في الحكومة والكنيست، وبإجماع تام من المؤسسات العسكرية والاستخباراتية والامنية، التي تدرك أهمية العلاقات الاستراتيجية مع اميركا، لا سيما في هذه المرحلة، وترفض إخضاعها لإي إعتبارات انتخابية او سياسية.

عندها، يمكن ان يكون التبرع اللبناني في الانتخابات الاسرائيلية قد ضاع هباء، عندما ذهب الى غير وجهته المقصودة، ولن يبقى منه سوى ذلك التعبير المفرط عن حسن النوايا اللبنانية المجانية تجاه الدولة الاسرائيلية، في مرحلة لا تستدعي هذا الانطباح المعيب، ولا التورط الأخرق في الشؤون الداخلية لإسرائيل وأميركا معا..ولا طبعا الاعلان عن “عرس وطني” يشارك فيه للمرة الاولى “حزب الله”، الذي كان حتى الامس القريب يهدد بطائراته المسيّرة باشعال الحرب، في واحد من أغرب السلوكيات السياسية للحزب الذي كان يتوقع ان يلتزم بقدر من التحفظ على الاتفاق على الاقل حتى توقيعه  النهائي، والتمعن في فكرة الترسيم “النهائي” للحدود البحرية الاقتصادية، الواردة في النص خمس مرات، وفي كلمة “الحقوق” الاسرائيلية في البلوك التاسع اللبناني من المنطقة الحدودية، الواردة في النص أربع مرات، بوضوح شديد..والتي سبقتها عبارة صريحة باللغة الانكليزية هي exercise the rights””التي ترجمت الى العربية ب”ممارسة الحقوق”، مع أن المعنى العربي الدقيق للعبارة هو “استخدام الحقوق او الاستفادة من الحقوق او التمتع بالحقوق”..من جانب اسرائيل طبعا.

رداءة الترجمة العربية للنص بالكامل ولتلك الكلمة المفتاحية في النص المكون من اربع ورقات فقط، وخمسة ملحقات اجرائية، بينها ملحق الخطوط البحرية التي صار خط العوامات الاسرائيلية مرجعاً نهائياً لها، يمكن ان تعوض، وتصحح، لكن ما لا يمكن تعويضه ولا تصويبه هو ذلك الجوهر السياسي الفعلي لإتفاق “تاريخي”، صيغ على أساس أنه لفتة وداعية للرئيس ميشال عون، ومعه “حزب الله”، فإذا هو سقطة تاريخية أمام العدو الاسرائيلي والوسيط الاميركي، لا أكثر ولا أقل.

 

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى