لا يشكّ عاقلٌ في أنَّ عموم قضايانا الوطنيّة والإسلاميّة ابتداءً من قضيّة فلسطين وصولاً إلى قضايا الشّعوب المقهورة في سوريا ومصر واليمن وليبيا وتونس والعراق تشهد انتكاسات كبرى وإخفاقاتٍ جسيمة وتراجعات ليست عاديّة على الصّعد المختلفة.
فالثّورات التي اشتعلت مع الرّبيع العربي أصابتها انتكاسةٌ أذهلت أبناءها عن أنفسهم، واستعرت الثّورة المضادة بطريقةٍ أفقدت الكثيرين صوابهم وجعلت الأرض تميد من تحت أقدامهم.
والعقلاء الرّاشدون فقط هم من يمتلكون القدرة على إدارة انتكاساتِهم وإخفاقاتِهم، ويحسنون التعامل معها فيملكون زمامها بدل أن تملك هي زمامهم وتقودهم إلى حيث لا تُحمَدُ العاقبة.
على من تجب المراجعات؟!
إن أوجب الواجبات عند حلول الهزيمة وحصول الإخفاقات أن يسارع أصحاب الهمّ والهمّة في المجالات كافّة؛ العسكريّة والسياسية والمدنيّة والإغاثيّة والفكريّة والشرعيّة والأخلاقيّة إلى عقد مراجعاتٍ شاملةٍ تستند إلى مكاشفاتٍ عاقلةٍ ومصارحاتٍ جريئةٍ لتشخيص الخلل ومواطنه، وللوقوف على الأسباب الحقيقيّة للأخطاء المفصليّة في مسيرة العمل.
فإنَّ وضع اليد على موضع الخلل، والضّغط على موطن الألم، والولوج إلى عمق الأسباب التي أورثت الهزيمة وتسببت بالتّراجع؛ هو واجب الوقت على أبناء القضايا المنتكسىة والثّورات الموؤودة.
وإنَّ المراجعات الواجبة ليست مطلوبةً من عموم الجماهير التي تحمّلت الويلات في سبيل نيل حريّتها وكرامتها، وليست مطلوبةً من عمومِ الشباب الذين قدّموا دمهم رخيصًا في سبيل إعزاز أوطانِهم، بل هي واجب قيادات العمل الوطنيّ والإسلاميّ، وواجب “النّخب” الثّوريّة والمعارِضة والمقاوِمة، وواجب المسؤولين الذين تقدّموا لقيادة الصّفوف أو قدّمهم النّاس لقيادتهم.
ففي فلسطين هي واجبُ جميع الحركات الإسلاميّة والوطنيّة التي تقود المشروع الفلسطيني وتحكم غزّة والضّفّة على السّواء، وفي سوريا هي واجب مؤسسات المعارضة السّياسية ابتداء من المجلس الوطني وصولًا إلى هيئة التفاوض مرورًا بالائتلاف الوطني، وواجب مجالس قيادات الفصائل الثورية، ومجالس إدارة المجالس الشرعيّة والمدنيّة، وفي مصر هي واجب جماعة الإخوان المسلمين التي حكمت البلاد سنةً وتمّ الانقلاب عليها، وواجب مجاميع العمل الشبابي المصريّ، وفي ليبيا واليمن والعراق وتونس هي كذلك واجب كلّ المؤسسات التي كانت ذات أثر حقيقيّ في مسار الثّورات والعمل الوطني.
الهروب من المراجعات
إنَّ أسهل السّبل للتّعامل مع الانتكاسات والإخفاقات التي تعانيها قضايانا يكمن في تعليقها على مشجب المؤامرة، وإقناع الذّات بطهرانيّة الصّف الدّاخلي، وأنّ المشكلة كلّ المشكلة هي في رجس العدوّ والعالم المتكالب المتآمر علينا هروبًا من المراجعات وتبعاتِها.
لكنّ هذا الأسلوب لا يعني سوى البقاء في الانتكاسة والإخفاق وتراكم الأخطاء والخروج منها إلى هزيمةٍ أشدّ وأعظم وانتكاساتٍ أنكى.
وهذا بالطّبع لا يعني إنكار وجود المؤامرة بل المطلوب هو عدم الغرق في عقدة المؤامرة غرقًا يمنع تلمُّس مواضع الخلل الحقيقي.
فعندما هزم المسلمون يوم أحد جاء البيان القرآنيّ ليركّز على مربط الفرس في قراءة الهزائم والانتكاسات في تجسيدٍ حقيقيّ لوجوب المراجعات وبيان موضعها؛ حيث قال تعالى: “أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”
فالصّحب الكرام المكلومون المثخنون بجراح الهزيمة نادَوا: “أنّى هذا”؟ أي ما سبب الهزيمة التي عانيناها وتسربلنا بها، وهذا تجسيد لوجوب ومشروعيّة رفع الصّوت بالسّؤال عن سبب ما نعانيه من تراجعات وفوضى وهزائم رغم كلّ ما نقدّمه من تضحياتٍ فذّة.
ويأتي الجواب الإلهيّ: ” قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ” أي فتّشوا في أنفسكم أولًا وأنتم تراجعون أسباب هزائمكم، ولا تحاولوا تبرئة ذواتِكم وكياناتكم بتعليق كلّ هزائمكم وانتكاساتكم على أعدائكم والمتآمرين عليكم.
لا لتأجيل المراجعات
ومن المبرّرات الخادعة للذّات القول بعدم أولويّة المراجعات في هذا الوقت، وأنّ الأولويّة الآن هي لمواجهة العدوّ وعدم الانشغال بالخلافات الدّاخليّة عن المواجهة الواجبة مع العدوّ المحتلّ أو العدوّ المستبدّ.
وهذا من التّلبيسِ على الذّات وخداعِها، ولو كنّا صادقين مع أنفسنا لعلمنا أنّ أكبر خدمةٍ نقدّمها لأعدائنا من المحتلّين والمستبدّين هي السّكوت على أخطائنا واستمرارنا بها واستمراؤُنا لها.
إنّ أخطاء أصحاب القضايا العادلة هي الحبل السريّ الذي يمدّ أعداءهم بمزيد من الحياة والقوّة؛ فلا يقتات أعداؤُنا على شيءٍ اقتياتَهم على أخطائنا وإخفاقاتنا، وقد صدقت العرب إذ قالت: استأسَدَ الحملُ لمَّا استَنوَق الجَمَلُ.
مراجعاتٍ منهجيّة موجعة لا جلسات فضفضة وتصفية حسابات
وعند الحديث عن المراجعات لا بدّ من التفريق بين جلسات النّقد العامّة والمصارحات الإعلاميّة والسّهرات الحواريّة وجلسات الفضفضة العامة، وبين المراجعات المنهجيّة التي تتمّ بصورةٍ علميّة عبر ورشات عمل ولقاءاتٍ تخصصية تجمع الأطراف المتخصصة وأهل الخبرة والنّظر لتشخيص مواطن الخلل والإحاطة بأسباب الانتكاس دون مجاملةٍ لأحدٍ أو مداراةٍ لكيانٍ أو جماعةٍ أو فصيلٍ أو تنظيم أو حركة أو قائد.
المراجعات المنهجيّة هي التي تُعقَد ابتداءً بعيدًا عن أعين الإعلام لتجنّب الاستعراض من البعض أو تقييد حريّة الكلام أمام الكاميرات، وتتمّ دون قيود أو ضوابط على الكلام، وبلا تحفّظاتٍ على سلوكٍ أو قرارٍ، وبغيرِ مداراةٍ لقائدٍ أو مسؤول، ولا تستثني أحدًا مهما كان موقعه، أو قرارًا مهما كانت حساسيّته وخطورته من التّقييم الحقيقيّ والمناقشة الجريئة.
كما أنّنا لا بدّ أن نفرّق في هذا المجال بين المراجعات الحقيقيّة الرّامية إلى الخروج من دائرة الهزيمة إلى ميادين النّصر، وتصويب المسارات وترشيدها بعد التّيه، وبين تصفيّة الحسابات الضيّقة الشّخصيّة والفصائليّة والحزبيّة والانتقام الشّخصيّ أو الذّاتيّ تحتَ ستارٍ من ادّعاء المراجعة ممّا يعني الغرق أكثر في أوحال الهزيمةِ المُستَحقّة والانتكاسة العادلة.
لا للمراجعات المكتومة
ولا بدّ بعد المراجعات الحقيقيّة والمنهجيّة من إعلانها للنّاس بكلّ شفافيّة وجرأة ووضوح، وبيان نتائجها وما خلصت إليه، وتحمّل المسؤوليّة عن الهزيمة والانتكاسة وتحميلِها بجرأة وشجاع لمن يستحقّها بلا مواربةٍ ولا خجل، ولا مجاملة على حساب الأوطان والدّماء، فالأوطان أكبر من الفصائل والجماعات، والقضايا العادلة أكبر من القيادات والمسؤولين.
وبعدَ تعرُّف السّنن والقوانين التي تمّت مخالفتها فأودت إلى الهزيمة أو الانتكاسة أو التّراجع؛ لا بدّ من وضع الحلول النّاجعة، واتّخاذ الإجراءات العمليّة والقرارات الشّجاعة لمنع تكرار الهزيمة، والمباشرة بالتنفيذ دون تردُّدٍ أو تأخٌّر أو محاباة.
وكلّما كانت المراجعات شفافةً ومعلنةً، وتحمّل المتسبّبون بالانتكاسات أو الأخطاء المسؤوليّة بجرأة وشجاعة؛ كلّما كانت هذه الجماعات أوثق عند النّاس وأرسخ في نفوسهم وأجدر أن تتحمّل أمانة القضايا ودماء الشّهداء.
وليسَ أرفع قدرًا ولا أعلى مكانةً من مسؤولٍ في حركة تحرّر أو جماعة مقاومة أو فصيل ثورة أو مؤسسة معارضة يخرج على النّاس ليقول لهم: لقدُ أخطأت في هذا موضع كذا وكذا، وأعتذر لكم ولدماء الشّهداء، وأخطأت جماعتُنا أو حركتنا أو فصيلُنا أو مجلسنا أو مؤسّستنا في موضع كذا وكذا ونتحمّل المسؤوليّة ونعتذر وتصوّب خطأنا بكذا وكذا.
إنَّ المراجعات المنهجيّة وحالُنا هذه التي تدمي القلبَ ليست ترفًا فكريًّا، ولا ينبغي أن تُترك لفضول الوقت، بل هي الأولويّة والواجب وعلى المخلصين والعقلاء أن يبادروا إليها راغبينَ قبلَ أن يخضعوا لها رغم أنوفهم دون أن تكون لها حينها ثمراتٌ حقيقيّة ولاتَ ساعةَ مَندمِ.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا