الجزء الخامس :
في عام 1517 م وعندما جرى الاستيلاء على مصر من قبل السلطان التركي سليم الأول تسلمت تركيا بصورة اوتوماتيكية الوصاية على الأراضي المقدسة في الحجاز .
أطلق كل واحد من السلاطين العثمانيين على نفسه بتواضع وفخر لقب ” خادم الحرمين الشريفين ” وفي الوقت ذاته كانت حاميتهم في مكة تظهر للأعين أنهم لايرغبون في إشراك أحد بتلك الخدمة للديار المقدسة . ومنذ ذلك الوقت ( يقصد تسلم الوصاية على الحجاز بعد السيطرة على مصر ) ظلت أسماؤهم تسبق اسم شريف مكة الأكبر في الخطب والأدعية . وبعد ذلك ارتفع شرف مكانتهم حين أصبح لقب خليفة المسلمين يسبق اسماؤهم والذين كان يشبه الختم على قوتهم التي لانظير لها في العالم الاسلامي .
لكن العثمانيين لم يبذلوا سوى جهد قليل لاصلاح الادارة الغارقة في الفوضى للحجاز , مثلما كان عليه الحال بالنسبة لمن سبقهم بالوصاية على الأراضي المقدسة .
وفي ذلك التاريخ كانت شرافة مكة قد أكملت ثلاثمئة عام دون أن يسائلها أحد عن مشروعيتها أو التأييد الذي تحظى به مؤسستها . وكانت الأساليب الادارية للعثمانيين بالكاد قد بدأت تتكيف مع المركزية الدائمة التي اتصفت بها الامبراطورية الاسلامية السابقة ( يقصد الدولة العباسية ) . وسرعان ما بدأت مختلف الولايات تأخذ شكل ادارات ذاتية , كل واحدة منها مستقلة عن المركز إلى حد كبير .
كان كل من باشوات القاهرة ودمشق وبغداد يتنافسون في من سيكون له المرتبة الأولى من الحضور في مكة . وكانت شرافة مكة تستفيد من ذلك التنافس , بالمقابل كانت الدول التي تتنافس على السيادة على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة تستفيد من النزاعات بين أشراف مكة.
لم يعان أشراف مكة في القرن الثامن عشر من ضغوط خارجية عليهم , لكنهم كانوا مضطرين للاعتماد على أنفسهم , ونظرا لعدم امتلاكهم مايكفي من العتاد فقد شكل ذلك خطرا عليهم في حال ظهور عدو غير متوقع يهدد بتدمير سلطتهم في الحجاز .
في ذلك الوقت ظهر الوهابيون في الجزء الداخلي من شبه الجزيرة العربية , يحملون بحماس وتشدد راية الاصلاح و تخليص الاسلام مما لحق به من شوائب .
هذه الحرب المقدسة المتجهة بصورة رئيسية ضد الهيمنة التركية ( )الدولة العثمانية نجحت في إشعال حماسة دينية في أجزاء واسعة من شبه الجزيرة العربية تشبه تلك الحماسة الدينية التي أيقظها محمد ( عليه الصلاة والسلام ) قبل اثني عشر قرنا ( لايمكن مقارنة الحركة الوهابية بالاسلام في نشأته بأي صورة كانت وتلك من سقطات الكاتب ) . ومع نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين تمكن الوهابيون من السيطرة على مكة والمدينة وفرض الاعتراف بسلطتهم على أشراف مكة .
لاحقا استطاع باشا مصر محمد علي والذي أصبح الخديوي الأول فيما بعد وبجهود عسكرية مضنية استعادة الأماكن المقدسة من يد الوهابيين منفذا بذلك المهمة التي أوكله بها السلطان العثماني .
من أجل ذلك تمت معاقبة شريف مكة لتخاذله في التصدي للوهابيين ضمن ولايته مع بعض أعضاء عائلته , كما منح السلطان العثماني مركز الشريف المعزول لفرع ثان من الأشراف .
لكن وحتى في هذه الكارثة ( استيلاء الوهابيين على الأراضي المقدسة وطردهم الأتراك ثم استعادة سلطة الدوولة العثمانية على تلك الأراضي بجهود الباشا محمد علي ) لم يجر الحديث عن إلغاء شرافة مكة .
ملاحظة : في الحقيقة أظهرت الدولة العثمانية دائما احتراما كبيرا لكل ما يتعلق بآثار الرسول وكل من يقول إنه منسوب اليه ويثبت نسبه لديهم وفق مايتوفر من أدوات محدودة للتحقق من النسب .
ومع طرد الوهابيين من الحجاز عام 1813 م بدأت آخر مرحلة تاريخية لشرافة مكة , فالوصاية التي مارسها الخديوي الأول لمصر محمد علي باشا والتي استمرت حتى العام 1840 م , بالتعاون تارة مع الدولة العثمانية وبمنافستها تارة أخرى كانت فعالة بصورة كلية , حيث كان السلطان العثماني ممثلا بصورة منتظمة من قبل حاكم للولاية معين من استانبول , وهكذا فالأيام الجميلة السابقة التي تمتعت بها شرافة مكة من قبل والتي كانت فيها مطلقة اليدين في مكة قد ذهبت بغير رجعة .
لم يكن التفاهم بين شرافة مكة وبين السلطنة العثمانية وديا في أي وقت , فتطلعات واهتمامات كل من الطرفين كانت مختلفة بصورة جوهرية , فالسلطان العثماني كان ينظر لشرافة مكة كشر لابد منه يمنع وضع الحجاز كولاية عثمانية مثل سائر الولايات , فهم كانوا يحتفظون هناك بحامية عسكرية وبموظفين مدنيين , لكنهم لم يتمكنوا من ادارة الحجاز كما هو حال بقية الولايات , فقد كان نفوذ وسلطة الادارة العثمانية معاقا من قبل نفوذ وقوة شرافة مكة الذي بقي بدون ضوابط وحدود واضحة .
كان شريف مكة يعين من قبل السلطة السائدة , ولم يعد بمقدور أي منافس له من الأسرة الهاشمية ازاحته بالقوة كما كان الحال سابقا . مما اضطر المنافسين إلى اللجوء لأسلحة الدسائس مع السلطان وحاشيته المقربة .
مع ذلك , ومع مظاهر الاستقرار الاداري للحجاز تحت سلطة الدولة العثمانية , فقد تطلب الأمر سنوات عديدة حتى العام 1880 م لتقتنع شرافة مكة نهائيا بعدم جدوى أي مقاومة مسلحة للحاكم العثماني للحجاز وسلطته المفروضة عليهم . وبذلك أصبحت السردية الشائعة لدى أشراف مكة أن السلطان العثماني ينبغي أن يطاع , لكن موظفيه في الحجاز غير مخلصين ولايمكن قبولهم . وأصبح معتادا أن يتم الاحتفاظ ببعض الأشراف في استانبول كرهائن في الواقع لكن مع الاحترام وتأمين حياة كريمة لهم .
وذلك لضمان ولاء الشريف في مكة للسلطان , وأيضا بصورة جزئية لإزالة مخاوف شريف مكة من وجود منافسين بالقرب منه . ومن الواضح أن هؤلاء الرهائن هم البديل الجاهز أيضا لشريف مكة حال ظهور أي نزعة تمرد عنده .
ملاحظة : ( تبدو هذه المرحلة من تاريخ شرافة مكة وكأنها مرحلة عشية ” الثورة العربية الكبرى ” ويظهر فيها بوضوح التوتر الدائم والصامت بين شرافة مكة والسلطان العثماني , هذا التوتر الناشىء بعد أن فقدت شرافة مكة تلك الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها في العهود السابقة , وخصوصا بسبب وجود معسكرات الجيش العثماني الدائمة بجانبها , وتعيين مسؤول عثماني ممثل للسلطان لحفظ النظام وادارة الأراضي المقدسة , مما يعني وجود ازدواجية في ممارسة السلطة الأرجحية فيها ستكون دائما للإدارة العثمانية وممثلها بضمان القوة العسكرية المرابطة , ورغم كون شرافة مكة منافسا هزيلا نسبة إلى قوة الدولة العثمانية لكنها متجذرة في العادات والتقاليد المحلية وبعلاقاتها القبلية واستتثمار العنصر الديني العاطفي في الشعور بالمقدس تجاه مايعتبر سلالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ويمكن النظر لذلك التوتر ايضا من زاوية الاختلاف في طرق ممارسة السلطة بين دولة كبرى تمتلك تقاليد عريقة في الإدارة والسياسة عرفت عنها الدولة العثمانية وبين سلطة محلية غارقة في العزلة ذات طبيعة عشائرية بعيدة عن منطق الدولة الحقيقية . وهو الاختلاف البنيوي الذي تم التمويه عليه لاحقا بأفكار قومية مصدرها بلاد الشام والعراق ومصر أيضا , وفي مرحلة لاحقة ظهر ذلك الاختلاف في هشاشة التحالفات السياسية التي أنشأها الشريف حسين مع انكلترا وعكست الجهل المطبق بالسياسات الدولية , والسهولة التي تم فيها توظيف حركة الشريف حسين لصالح الجهد العسكري البريطاني في الحرب العالمية الأولى , ثم تمزيق تلك الحركة واستخدام أشلائها في تنفيذ المخطط الغربي لتقسيم المنطقة والسيطرة عليها .)
* مابين قوسين أو ما أشير إليه كملاحظة هو مني وليس من الكاتب .
المصدر: صفحة معقل زهور عدي