مرة أخرى، عن جمال عبد الناصر!

ميشيل كيلو

لا يحتاج نصير الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية المؤمن بهما إلى مناسبة كي يتحدث عن جمال عبد الناصر، رمزهما وداعيتهما والعامل بدأب في سبيلهما. مع ذلك، هناك مناسبة لهذا الحديث هي ما كشف عنه الأستاذ محمد حسنين هيكل من خطط إسرائيلية لقتل القائد العربي بـ’السم أو بالمرض’، كما تقول إحدى الوثائق الصهيونية السرية.

لا يحتاج العربي إلى وثائق سرية كي يعرف موقف إسرائيل من جمال عبد الناصر، فهذا الموقف لا يرجع إلى عام غيابه سنة 1970، بل هو معلن منذ أواسط عام 1954، عندما عقد مجلس وزراء العدو جلسة درس خلالها الموقف من الثورة المصرية وقيادتها، قال خلالها الصهيوني الأكبر ومؤسس ‘الدولة’ ورئيس وزرائها يومذاك دافيد بن غوريون: بعد دراسة واستعراض تواريخ وأفكار وأدوار الضباط الأحرار، وجدنا أن من واجبنا التركيز على البكباشي جمال عبد الناصر حصرا، فهو الرجل الأشد خطورة علينا والأكثر عداء لنا، فضلا عن أنه صاحب الثورة وحامل مشروع تغييري إن نجح في تحديث مصر أدى إلى هلاك المشروع الصهيوني ودمار دولة إسرائيل. يجب أن تكون مهمتنا بدءا من اليوم : القضاء على جمال عبد الناصر، بأي أسلوب وأي ثمن ومهما كانت النتائج.

خاف العدو من جمال عبد الناصر بسبب مشروع التحديث الذي كان يمثله، وخاف أكثر عندما بدأ قائد ثورة تموز (يوليو) يكتشف البعد العربي والدولي للثورة، وأخذ يطبعها بطابع قومي واضح، قبل أن يضعها في إطار الصراع ضد الغرب الرأسمالي.

في البداية، قرر العدو التخلص من عبد الناصر كشخص، لاعتقاده أن موته يعني نهاية مشروع تحديث مصر، ثم قرر إفشال مشروع التحديث ذاته، وما لبث أن مد نشاطه التخريبي إلى نزوع ناصر الوحدوي العربي، قبل أن يواجهه باسم الغرب وبالتحالف معه ويشن عليه اعتداءات وحروبا متلاحقة، كثيرا ما تمت بتكليف من دوله الكبرى وبالتعاون معها، لاستنزاف طاقات المشروع الناصري بأوجهه المتنوعة والمتكاملة، وإفشاله، بالتوازي مع جهود بذلتها قوى عربية وداخلية متنوعة ضده، قادته في نهاية الأمر إلى الإخفاق، وتوجت جهودها بقتل الرجل ذاته، مجسد مشروع النهضة الوحيد، الذي عرفته الأمة في تاريخها الحديث، وآلف لأول مرة منذ قرون بين إيقاظ الإنسان العادي وتحويله إلى حامل لمشروع تحرره الذاتي وللتحرر العربي، وكان رعية أخرج منذ وقت طويل من التاريخ، فجعلته الثورة مواطنا له كرامته، وبين تحويل الدولة من أداة تنفرد بالقسم الأكبر من الثروة والسلطة والمعرفة والقوة، إلى مؤسسات تضع نفسها في خدمة المواطن وتلعب دورا حاسما في تغيير تاريخي عميق لم يسبق لدولة في المنطقة أن أخذت على عاتقها ما يماثله أو يقاربه. فإذا أضفنا إلى هذا صفات الرجل الكبير الشخصية وطريقة عيشه المتقشفة والمتواضعة، التي جعلت منه خادما بكل معنى الكلمة للدولة، بلغ إخلاصه لها حدا جعله يبتعد ويبعد كل من تجمعه به صلات قربى وصداقة عن مغانمها، حتى انه مات وفي جيبه جنيهات قليلة لم يملك وأسرته غيرها، وإذا تذكرنا كذلك الطريقة التي كان يدير من خلالها معاركه الكبرى، والتي جعل مفرداتها الرئيسة وكثيرا من تفاصيلها في متناول الإنسان العادي، العامل والفلاح والموظف والطالب والجندي والتاجر … إلخ ،علمنا أنه كان فرصة نادرة أتيحت للعرب، وفهمنا وجه الخطورة فيه على إسرائيل، ولماذا قررت حكومتها التركيز عليه شخصيا والتخلص منه بأي ثمن.

ومع أن معلومات السوفييت كانت تقول إن من قتل عبد الناصر هي المخابرات البريطانية، التي دست له السم في كأس من العصير شربه خلال وداع أمير الكويت في مطار القاهرة أواخر شهر أيلول (سبتمبر) عام 1970، فإن هيكل يؤكد عبر وثائقه أن إسرائيل كانت تعمل بتخطيط وتصميم يومي للتخلص منه.

يوجد هنا اتفاق واضح بين المصدرين، مفاده أن القائد الكبير قتل ولم يمت ميتة طبيعية، وأنه اغتيل بأوامر من قوى أجنبية: بريطانية أو إسرائيلية لا فرق، وإن كان من دس له السم ليس بالضرورة بريطانيا أو إسرائيليا. يرجح صحة هذا التقدير أن بريطانيا كانت تكن العداء للرجل الذي أخرجها من مصر، وقاوم عودتها إليها خلال حرب السويس عام 1956، ثم طاردها في الوطن العربي وأفريقيا، ولعب دورا بالغ الأهمية في إخراجها من عدن وكينيا، فقضى على واحدة من حلقات سيطرتها المحكمة على بحار العالم وممراته الاستراتيجية تمتد من قناة السويس على المتوسط إلى خليج عدن وباب المندب في البحر الأحمر ومشارف المحيط الهندي، مما أجبرها في النهاية على الخروج من منطقة شرقي السويس بكاملها، ووضع حدا لزمن استعماري كانت الشمس لا تغيب فيه عن إمبراطوريتها، قبل أن يواجه أمريكا، وارثة الوجود البريطاني في المنطقة، وإسرائيل، بالحركة القومية والوحدوية العربية وبالشارع العربي، وبتحالف قام على الندية والاستقلالية مع الشرق السوفييتي، في حين كانت مشاريع التنمية المائية الكبرى، وخاصة منها السد العالي وآلاف الترع والقنوات، تضع النيل في خدمة الفلاح المصري حتى في أكثر قراه بعدا عن المراكز الحضرية، ومشاريع التصنيع تبني أكثر من ألف مصنع، بعضها استراتيجي الوجود والدور، وتضعها تحت تصرف شعب تزايدت أعداده باضطراد وضاق وادي النيل عليه، فأنقذته الصناعة الكثيفة من الجوع، بينما غطت الجامعات والمعاهد والمدارس والمستشفيات أرض مصر من أقصاها إلى أدناها، وتم تحديث التعليم في الأزهر، فدخلت أجيال متعاقبة إلى العالم والعلم الحديثين، ونعمت بنهضة أدبية / فنية لا نظير لها أوصلت الكتاب بأرخص الأسعار إلى كل مواطن، وترجمت عشرات آلاف المؤلفات والأسفار والمجلدات إلى العربية، حيث تلقفتها أيدي شعب كانت أميته تمحى، ونهلت من معينها أجيال متعطشة إلى المعرفة تمتعت بحد مقبول من حرية التفكير والتعبير، لمسه كل من درس في جامعات ومعاهد مصر آنذاك، حيث كان الأساتذة والطلبة يتناقشون بحرية في شتى شؤون المعرفة، ويدرسون مختلف النظريات والمدارس في الحقوق وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والفلسفة والفن … الخ، ويستمتعون بتعايش وتنافس مشارب فكرية وأيديولوجية متباينة، رغم خيارات الدولة الاشتراكية والقومية ومعركتها القاسية جدا مع الغرب.

كان تحديث مصر قائماً على قدم وساق، يوفق في حدود دنيا بين السلطة والحرية، وحدود أوسع بين الإسلام والحداثة، وتراث الماضي وحداثة الحاضر، ومصالح مصر ومصالح العرب، الذين وضعت الثورة نفسها في خدمتهم، دون أن تبحث عن منافع تجنيها منهم أو على حسابهم، رغم أنها سارعت دوماً إلى نجدتهم: من موريتانيا إلى بغداد، ومن الصومال إلى اليمن فدمشق.

وكانت مطاردة عبد الناصر قائمة بدورها على قدم وساق، حتى أن إسرائيل وأمريكا لم تتركا فرصة إلا واغتنمتاها للتخلص منه. ولعل أكثر ما فعلتاه أهمية تجلى في خطتين: واحدة استهدفت تطهير العالم النامي من أنظمته المناوئة لها، لكشف مصر وتجريدها من حلفائها، وأخرى استهدفت سحب جيش مصر إلى خارج أرضه (اليمن)، قبل توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية / أمريكية مشتركة إلى قلب مصر تقضي على قوتها وتسقط عبد الناصر (حرب حزيران ـ يونيو عام 1967).

بموته يوم 29 أيلول/سبتمبر (يوم ضرب وحدة سورية ومصر)، حققت الخطة التي رسمت عام 1954 في مجلس وزراء العدو، وفي رئاسة أركان الجيوش الأمريكية عام 1965، غرضها، وتم التخلص من عبد الناصر ثم من مصر الناصرية ودورها العربي.

لا داعي بعد هذا لشروح طويلة. زرت ذات يوم بيت فلاح سوري، فوجدت صورة عبد الناصر تتصدر غرفته الرئيسة. سألته إن كان ناصريا، فقال لي: لم أكن ناصريا خلال حياة عبد الناصر، صرت من محبيه وأنصاره بعد غيابه، عندما بينت الوقائع حجم خسارة العرب بفقده، ورأيت ما حل بنا في كل مكان، و’أننا ما شفنا الخير بعده’!

‘ كاتب وسياسي من سورية

28 ديسمبر 2009

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى