يوم رحيله، لم يكن يومًا عاديًا، أو عابرًا في تاريخ أمتنا العربية، ففي 28 أيلول 1970، حدث ما لم يكن متوقعًا، ولم يخطر في بال أهمّ المحللين، وأكثرهم قدرة وخبرة في التنبؤات والتوقعات أن يرحل جمال عبد الناصر، بهذه السرعة، وفي تلك الفترة الحرجة بالتحديد. بعد أن ترأس عبد الناصر قمة عربية طارئة وعاجلة في القاهرة، من أجل عقد مصالحة بين رئيس “منظمة التحرير الفلسطينية” ياسر عرفات، والملك الأردني، الحسين بن طلال، (والد الملك عبد الله الثاني الحالي) بعد أحداث ما عرف لاحقًا بـ”أيلول الاسود”، التي انتهت بترحيل قوات منظمة التحرير العسكرية من الأردن، وتوزيعها على الدول العربية المجاورة.
في هذا اليوم الحزين، يوم رحيله، بدأت أتعرّف على جمال عبد الناصر، ومَن هو هذا الزعيم الذي كان يجمع الرجال والنساء والشباب حول أجهزة التلفاز في مصر والعالم العربي، عندما كان يلقي كلمة او حطابًا في أيّ مناسبة عربية وطنية، وما أكثرها في أمتنا العربية.
كنّا مجموعة من الفتية، نلهو ونلعب في إحدى ساحات الحيّ، خلف دارة عمّي الكبير رحمه الله، أكبرنا لم يتجاوز الـ12 من عمره، وقرابة الساعة السابعة من بعد ظهر 28 أيلول 1970، لاحظنا حركة غير عادية في الحيّ، هذه جارتنا، سيدة تسير مسرعة الى منزلها، تتعثر بدموعها، وذاك رجل من حيّ آخر، تجعّد وجهه واكفهر، محاولًا إخفاء دموعه المنسابة فوق شنباته ولحيته، جادّا في سعيه الى الوصول الى منزله، وتلك جارة أخرى، تنادي أطفالها وتدعوهم الى العودة بسرعة الى المنزل، ونحن كنّا مِمّن وُجّهت اليهم الدعوة الملحة، للتوجه الى منازلنا، بخاصة، وأن بشائر الليل بدأت في الظهور.
مات عبد الناصر.. هذا هو الخبر السيء، الذي سمعنا به بعد كل ما رأيناه وسمعناه، وبعد استيضاحنا عمّا حصل أو يحصل ونحن لا نعرفه. ولا يعرفه مَن كان في عمرنا، بدأنا ندرك قليلا ما هو معنى رحيل عبد الناصر، سمعنا الكثير الكثير من العبارات، منها: مات أبو العرب.. مات الزعيم الآدمي.. رحل القائد المحبوب.. مات حبيب الملايين، يا ويلنا من بعده.. رحل حبيب الشعب العربي.. رحل عبد الناصر الذي كاد يكون نبيًا.. والكثير من الأوصاف التي أطلقت على الراحل الكبير.
كنت أسمع، وأنصت بكلّ اهتمام الى كلّ ما أسمعه عن جمال عبد الناصر، من الأهل والأقارب والجيران في تلك الليلة، ولا أعرف حقيقة هذا الرجل العظيم، ولا أهميته، وأجهل التداعيات السلبية لرحيله المفاجىء، وما هي الأسرار التي تحيط بهذا القائد الفذّ، وما هي أسباب مودته ومحبته من قبل كلّ الناس، كلّ الناس، إلّا قلة قليلة تكاد لا تذكر، فلم أكن مِمّن يتابعون الشؤون السياسية، لا محليًا ولا عربيًا ولا عالميًا.
علمت من الجيران، ومن بعض زوارنا من الأقارب، أن الحزن على رحيل عبد الناصر يلف البلدة البقاعية البائسة، والأمر لم يقتصر على حيّنا فقط، فقد تجاوزه الى بقية المناطق البقاعية، بل الى كلّ المناطق اللبنانية، وأولها، العاصمة بيروت، وعاصمة الشمال طرابلس، وعاصمة الجنوب اللبناني صيدا، ومنطقة الشوف، وكل المناطق اللبنانية، باستثناء بعض البلدات والمدن التي لا يرتاح أهاليها لعبد الناصر، وسياسته الساعية الى تحقيق الوحدة العربية، بخاصة بعد توحيد القطرين المصري والسوري في إطار الجمهورية العربية المتحدة، في 22 شباط/ فبراير 1958، والتي فرط عقدها لاحقًا في 28 أيلول/ سبتمبر 1961، بعد إعلان سوريا إنسحابها وإنفصالها عن مصر، بقيادة “حزب البعث العربي الاشتراكي” في حينه. فكانت أول ضربة توجّه لأول وحدة عربية في تاريخنا الحديث، والى عبد الناصر، والى كلّ الوحدويّين الحقيقيّين في العالم العربي.
وفي الأول من تشرين الأول/ اكتوبر، موعد العالم بأسره مع تشييع الراحل الكبير، استيقظت على جلبة وأصوات مرتفعة في محيط منزلنا، وأصوات لم أفهم منها كلمة واحدة، حاولت جاهدًا التقاط كلمة لأعرف سبب الصراخ، لم أفلح، فتحت باب منزلنا، فوجدت عددًا كبيرًا من أبناء الحيّ، يتجمهرون حول أحد أبناء الحيّ من الشباب الكبار، الذي كان يحمل مجموعة كبيرة من صور القائد جمال عبد الناصر، وأخوته يتقاسمون حمل مجموعة من الأخشاب المصطحة (معاكس) المعدة لحمل الصور، سلّمت على الجميع، متسائلًا: ماذا تفعلون؟!
قال جارنا الأكبر: “ولوّ.. مش عارف إنو مات عبد الناصر؟! واليوم، بدنا نمشي بجنازة رمزية للقائد الكبير”.. سنجهز أنفسنا في الحيّ، وسنرفع صور القائد عبد الناصر على هذه اللافتات الخشبية، ونسير في الجنازة الرمزية الكبيرة، التي ستجوب بلدتنا، والبلدات المجاورة في منطقة البقاع الأوسط. وهذا ما حصل، ومن هنا بدأت رحلة التعرّف على جمال عبد الناصر، وقد ساعدني على ذلك، أحد أقربائي، والذي كنّا وما نزال نعتبره أخينا الأكبر.
إنطلقت الجنازة الرمزية تجوب شوراع قرى وبلدات البقاع الاوسط، كانت الأكثر حزنًا وألمًا في البلدة، بمشاركة شبابية كبيرة، ونسائية قليلة، رُفعت اللافتات التي تشيد بالقائد، وكلّ مشارك يحمل صورة لعبد الناصر، يرفعها فوق رأسه، نساء اتشحت بالسواد، دموع تسيل من الأحداق من دون توقف، حتى خلت في بعض اللحظات، إننا أمام لحظات تنذر بنهاية العالم.
وفي اليوم التالي للغياب، تابعنا الأخبار الآتية من مصر، وأدركت في حينها إننا أمام حدث كبير، وأن رحيل جمال عبد الناصر ليس أمرًا عاديًا، ولن يمرّ مرور الكرام على أمتنا العربية، وبخاصة/ بعد أن سمعنا الأخبار عن عبد الناصر، ومن هو؟ وماذا يفعل من أجل مصر وأمتنا العربية، بل ودول العالم الثالث.
بعد سنوات قليلة، كنت برفقة أحد أعمامي علي حمّود، رحمه ورحمهم الله، الذي أسّس أول مجموعة نابعة لإطار سياسي ناصري في بلدة الفاكهة الواقعة في البقاع الشمالي، في زيارة الأخ الناصري الراحل الكبير مصطفى عثمان، أبا علي، وكم كنت فرحًا في هذه الزيارة، بخاصة، بعد أن علمت أن الأخ أبا علي سيكون خطيبًا يوم إزاحة الستارة عن تمثال جمال عبد الناصر في بلدة قب الياس/ البوابة الغربية لمنطقة البقاع الغربي، والذي سعى الى إقامته القائد الناصري الراحل فياض حيدر، بالتعاون مع عدد من الاخوة الناصريين في منطقة البقاع الأوسط والشمالي والغربي. التمثال الذي فجرته لاحقًا قوى ظلامية معادية لعبد الناصر وللعروبة وللوحدة العربية، كما فجّرت لاحقًا اول تمثال يقام تخليدًا لعبد الناصر في أول مدينة بعلبك أيضًا.
نعم. عرفت جمال عبد الناصر، القائد العربي الوحدوي، الذي قدّم حياته فداء للأمة العربية، وبخاصة القضية الفلسطينية، التي تحمّل من أجلها ما لم تتحمله الجبال، وسعى بكل جوارحه الى تحقيق الوحدة العربية، وحماية الوحدة مع سوريا، ولكنه لم يفعل، ولم يفكّر للحظة في حماية الوحدة مع سوريا بالقوة، وكان قادرًا على ذلك، لكنه أبَى أن يفرض الوحدة على جزء ولو بسيط من الشعب السوري الذي أيّد الإنفصال عن مصر، والعودة بسوريا الى الصراعات الداخلية، التي بدأها حزب البعث العربي الاشتراكي بالمؤامرة على الوحدة، ولم تنتهِ حتى اليوم.
مناجاة
وفي الذكرى الـ53 لرحيل عبد الناصر، لا يسعنا سوى الاعتذار من قائدنا، لأن كثر من الناصريين انحرفوا عن النهج الوحدوي، وتحوّلوا من مناضلين في خدمة الشعب العربي، الى مجرّد بيادق متحركة في أيادي السلطات الحاكمة هنا وهناك في الوطن العربي، وبعض من ورثه من غير الأبناء، لم يتورّع عن المجاهرة في التنكر له، ولتاريخه ولنضالاتكده التي اعترف بها القاسي والداني، في الشرق والغرب، وفي أميركا الشمالية والجنوبية.
أيها القائد، نعتذر منك، لأن غالبية من تنطحوا لتحرير فلسطين، في العالم العربي، من أنظمة وأحزاب عربية، وبخاصة الإشتراكية منها، قتلوا من أهالينا الفلسطينيين ومن شعب فلسطين أكثر ممّا قتل منهم العدو الصهيوني على الجبهات وفي الداخل المحتل، وبعض قيادات الأحزاب إغتنت و”ترسْمَلت” بالمال “الحلال” الذي أحبّته حبًا جمّا، تحت عنوان الناصرية، وتحوّلت من النضال في الخنادق الى النضال في الفنادق، وبعضٌ آخر من هذه “القيادات الناصرية العظيمة”، عمل على محاولة توريث “نضالاتكم وتضحياتكم” الى أبنائه الـ(صيّع)، فبات الفقر إرثًا، يجب تعميمه على كل الطبقة العامة من الشعب العربي.
أيها القائد، لن أطيل عليك، سيكون لنا رسائل أخرى إن شاء الله، ولكن أخبرك، بأن غالبية من رفعوا صورك يوم رحيلك في 28 أيلول 1952، في لبنان واليمن والعراق وسوريا وبعض فلسطين، استبدلوها بصور زعماء اعداء العرب والعروبة، وبصور شخصيات طائفية لا تمت الى عروبتنا وانتمائنا بأيّ صلة، نعم… إن الكثير من أصحاب المنازل التي كانت تحتل صورك جدرانها، استبدلوها بصور أسيادهم الجدد، وأعلام الوحدة استبدلت برايات طائفية، وبأعلام دول أجنبية هي الأشدّ عداوة للعرب والعروبيين.. نعم.. ها هم أعداء العرب من الشرق والغرب، باتوا في الكثير من المنازل، وفي الدول التي ذكرناها، وبات الحديث عن العروبة والوحدة الغربية من المحرمات..
عذرًا.. لسنا أهلًا لخلافتك، وتحمّل مسؤوليات مشروعك العربي الذي يتغنّى به إبن أميركا الجنوبية، وأبناء بعض دول العالم الثالث، التي عرفتكم، وشهدت على رجولتكم وثباتكم في مواجهة الصعاب من أجل شعوب العالم الثالث المضطهدة.
رحمك الله يا أبا خالد.
خاص موقعيّ “المدارنت” و”ملتقى العروبيين”