غلب الطابع الحزين على شهر أيلول في ذاكرة العرب الحديثة، وإن تخللته بعض ومضات الفرح والتفاؤل؛ ولعل أبرز محطات الذاكرة تبدأ بجريمة الإنفصال المشؤوم عام ١٩٦١م، وإنهاء تجربة الجمهورية العربية المتحدة، أول وحدة عربية في التاريخ الحديث، وتواطؤ ومشاركة أحزاب وأنظمة عربية في تلك الجريمة. تليها في التسلسل الزمني مجازر ايلول التي نفذها نظام الملك حسين في الأردن ضد المنظمات والمخيمات الفلسطينية، ما عرف آنذاك بأحداث أيلول الأسود( ١٦-٢٧ أيلول ١٩٧٠م)؛ وما جاء بعد إنهائها بيوم واحد، بعد جهد متواصل أضنى صحة الرئيس جمال عبد الناصر، كان كافيا لاشتداد مرضه ومفارقته الحياة، في صدمة أذهلت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج.
ثم تتابعت محطات أيلول بقسوة، في أحداث وضعت مصير العرب على المحكّ، من اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٨م، إلى مجازر صبرا وشاتيلا ضد المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين في المخيمين المذكورين عام ١٩٨٢م، إلى تفجيرات ١١ أيلول ٢٠٢٢م في الولايات المتحدة الأمريكية وتدمير برج التجارة العالمي، وما جرى من تداعيات اجبرت العرب على دفع فاتورة باهظة مضرجة بالدم، بعد وصمهم بالإرهاب واتهامهم بعمليات العنف المتنقلة في العالم.
أمّا الذكرى التي تعنينا اليوم بشكل مباشر، تتمثل بالعنوانين الأبرز في الذاكرة العربية، وهما جريمة الإنفصال عام ١٩٦١م، وغياب القائد التاريخي جمال عبد الناصر عام ١٩٧٠م؛ علّنا نستخلص العبر والأمثولات مما حصل بعد ذلك؛ ولسنا في وارد البحث عن الأسباب التي دعت إلى الإنفصال، أو إلقاء المسؤولية على هذا الفريق أو ذاك؛ ولكننا معنيون بما قرره القائد جمال حينها، في عدم استعمال القوة لضرب الانفصاليين، بل قرر إفساح المجال أمام القوى الوحدوية الثورية العربية لتحقق هدف الوحدة والتكامل بين أقطار الأمة الواحدة.
مع التذكير أن المحاولات التوحيدية التي جرت في عهده ، ثم في عهد خلفه الرئيس أنور السادات، كانت فاشلة؛ ولم تكن محاولات الاحزاب التي رفعت شعارات الوحدة العربية أفضل من محاولات الأنظمة والحكام، حيث طغت الأنانية والشخصانية والروح الاقليمية على كثير من مدعي القومية العربية، منذ ذلك الحين حتى أيامنا هذه.
كان الأمل أن تجد التيارات القومية سبيلا لتنظيم نفسها بعد رحيل القائد، حيث ظهرت أحزاب وتنظيمات في مجمل الاقطار العربية تتبنى نهج جمال عبد الناصر ، وتسير وفق النتائج النظرية التي حددها في وثائق الثورة( فلسفة الثورة، الميثاق الوطني، بيان ٣٠ مارس)، وفي خلاصات التطبيقات الثورية في المجتمع المصري على أساس نهج التجربة والخطأ؛ ولكن المفارقة الكبرى أن تلك الحركات والتنظيمات والاحزاب الناصرية ظلت أسيرة الإقليمية رغم تبنيها شعارات وحدوية جامعة.
ثم بدأت تظهر للعلن خلافات شكلية وأخرى جوهرية فيما بينها خلال سبعينات القرن الماضي، إلى أن بدأ المنحى الاستقلالي لكل منها في الثمانينات، وأدى ذلك إلى ظهور تناقضات جلية في جوانب الفكر والتنظيم والحركة السياسية، وتم إجهاض التنظيم الطليعي (السرّي) ، الذي كان نواة الحركة العربية الواحدة في ظروف لا يعلمها إلا قليلون ، ما أدى إلى تشرذم وتمزق الحركة الناصرية، وإلى دخول أقطابها في بازار التبعية إلى المنظومات النفطية، أولئك الأقطاب الذين طغت عليهم الشخصانية، واستغلوا التيار الناصري العام في مصالح ضيقة.
هنا نسأل:
١- هل أصيبت الاحزاب الناصرية بالجمود الفكري وأصبحت هياكل خشبية؟
٢- ماذا تبقى من الناصرية بعد تبعية أحزابها لأنظمة متخلفة ذات توجهات إقليمية أو دينية؟
٣- اين القوى الناصرية من ركائز المشروع النهضوي العربي في الحرية والاشتراكية والوحدة؟
٤- ألا يجدر بدعاة الوحدة العربية أن يوحدوا صفوفهم في حزب واحد؟ والغريب أن شعاراتهم وحدوية رنانة، في حين أن ممارساتهم انفصالية تقسيمية!!! أسئلة كثيرة لا أظن أن من يعنيهم الأمر لديهم جرأة الإجابة عليها.