تحل ذكرى 28 أيلول/ سبتمبر، رحيل جمال عبد الناصر وانفصال عرى الوحدة المصرية_ السورية، هذا العام وسط حالة غير مسبوقة من التحديات والمخاطر الوجودية على معظم أقطار الأمة العربية وكياناتها أمام تغول المشاريع الخارجية وتهالك البنى الوطنية، وعجز “الكتلة التاريخية” عن إحداث تغيير جذري وعميق، مايجعلنا بكل حياد وموضوعية نؤكد على فداحة وثقل هذا اليوم في تاريخنا المعاصر، بما جسده من معان وقيم.
بعيداً عن كل ما يقال بحق جمال عبد الناصر ومشروعه، وفي تجربة الوحدة العظيمة بعثراتها وإخفاقاتها، فإن مانود أن نسلط الضوء عليه هنا هو حال أولئك الذين يعتزون بتجربة الوحدة ويدافعون عنها بإيمان وصلابة، ويعدون أنفسهم أنهم يستلهمون من عبد الناصر وتجربته ونهجه مواقفهم ويقيسون عليها آرائهم، ويمشون على خطاه ويتبعونه.
مما لاشك فيه أن غياب الأداة التنظيمية_ السياسية التي تشكل مرجعية ضابطة لكل القوى والمجموعات والفصائل أدى إلى كل هذا التباين والخلل في ما نشهده اليوم من حال هؤلاء وتناقضاتهم، وهو العطب الرئيس الذي أدى إلى ضرب التجربة في عقر دارها والانقلاب عليها في مايو/ آيار 1971، ولكننا نعتقد أن ما وصلنا إليه بات يحتاج حديثاً صريحاً وواضحاً إن كان له من عنوان فهو من الناصريين وإليهم مقاربة للمفكر الكبير الراحل عصمت سيف الدولة في كتابه “عن الناصريين وإليهم”، الذي جاء مبكراً في رسالته ومعناه.
خاض عبدالناصر ومنذ أيام ثورة يوليو المجيدة صراعاً تاريخياً جند له كل الامكانات لأجل الاستقلال الوطني ووقف في وجه كافة المشاريع والأحلاف الخارجية ووضع هذا المبتغى في مقدمة الأهداف الستة لتلك المرحلة، وظل نهجه ومساره إلى أن رحل عن دنيانا، ومانشهده اليوم من معظم القوى الناصرية بعد مرور 70 عاماً على تلك الثورة التي غيرت تاريخ المنطقة وبعض العالم، تبعيتها لأجندات خارجية، وارتباطها الذيلي، تحت مزاعم مضحكة_ مبكية تتعلق بالمقاومة والممانعة، أو قضية فلسطين، وبمعنى أوضح بات الجزء الأكبر من هذه القوى مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشروع الايراني، وهو المشروع الذي يهدد كل بلدان المنطقة ويفاخر بسيطرته على عدة عواصم عربية، وهو الموقف ذاته الذي أدى بهؤلاء، أو تماشياً معه، إلى الوقوف إلى جانب نظام دمشق قاتل شعبه، بل وذهب البعض منهم إلى اعتبار أن معركة الأسد الصغير معركته، و(انتصاره) انتصاراً لهم، في واحدة من أسوأ فواجع تبعيتهم وضلالهم، حتى أن هؤلاء باتوا، بلا خجل أو حياء، يرون أن من واجبهم الوطني والقومي تعبئة قواهم وحشد إمكاناتهم لفك العزلة عن المجرم بشار الأسد وإعادة تأهيله، وذلك عبر “مؤسسات” قومية تعقد بتمويل من المحتل الايراني وتحت حرابه، أو في ظلاله، وتترحم على قتلاه.!!
يحق لنا، كما يحق لشعوبنا، أن نسأل دون مواربة كيف فهم هؤلاء مشروع عبد الناصر ومرتكزاته، وكيف فهموا معنى الاستقلال وعدم التبعية، ومامعنى الحرية والكرامة في فكر وثقافة هؤلاء، وماهي أولويات الإنسان وحقوقه في أدبياتهم وبرامجهم.؟؟!!
إن ذلك، بلاشك، لا علاقة له بالناصرية، أو عبد الناصر، من قريب أو بعيد، بل هو خطل فكري وسياسي يطول شرحه والحديث فيه.
وبالرغم من التاريخ المشرف لمعظم من ننتقد إفلاسهم السياسي والأخلاقي اليوم، من الغريب حقاً ليس فقط مواقفهم “الخارجية” بل دعم بعضهم للانقلابات الحاصلة في بلدانهم ذاتها والتي عادت بها إلى ما قبل ثورات الربيع العربي في أحلامها الكبرى التي كانت هي ذاتها أحلامهم ونضالهم وخبزهم اليومي.!!
إن العداء لبعض القوى التي ركبت موجة الربيع العربي واستغلته، وانحرفت به، لاتبرر دعم نظم الاستبداد والطغيان الانقلابية سواء أتت عبر صناديق الانتخابات أو على ظهر الدبابات، وهي القوى التي ناضلت سنين طويلة لأجل الحرية والديمقراطية، وهذا الحال هو ما أدى إلى تراجع شعبيتها وضعف دورها وثقلها داخل بلدانها، وأقام بينها وبين القاعدة الجماهيرية العريضة حواجز وسدود مانعة ولم تكسبها في المآل سوى السخط عليها.
أيضًا، برز مؤخراً مايشير إلى سوء فهم، وعمى أيديولوجي، أو خصاء فكري، لدى بعض القوى والأفراد ممن يحسبون أنفسهم على مدرسة عبد الناصر، وأتباع نهجه، ولكنهم يقفون بلا حياء مع روسيا البوتينية في حربها على أوكرانيا، ورغم فهمنا لتعقيدات الصراع هناك، إلا أنه من المؤكد أنه ليس صراعاً يستهدف حرية الشعوب واستقلالها، وليست حرباً ضد (الامبريالية)، ونحن لسنا في زمن حركات التحرر العالمية والثورية.
لقد أغشى بصر هؤلاء العداء لأميركا، وهي عدوة بلا شك لتطلعات الشعوب وآمالها، وجعلهم يغضون الطرف عن كل مافعلته وتفعله روسيا في سورية وشعبها ومدنها وحضارتها .
من حقنا أن نسأل تحت أي مسوغ يقفون مع قاتل ومجرم ودكتاتور يوزع إجرامه في أصقاع الأرض، ويتوهمون أنها حرب إعادة التوازن المفقود للعالم، ويمجدون انتصاره على جثث أطفالنا في الحرب الكونية المزعومة…؟!
وهذا كله غيض من فيض عشناه وشاهدناه في السنوات الأخيرة من تهافت هؤلاء، وهم بعض وليس كل العروبيين أو القوميين أو الناصريين.
إن ما أشرنا إليه في هذه العجالة مؤشرات مرض عضال، ووهن بنيوي، يفترض معه إعادة تعريف من هو العروبي، أو القومي، في عالمنا اليوم، والخروج من عباءات الماضي والتاريخ إلى فضاءات المستقبل والحرية، ووضع كل ما مضى في سياقه التاريخي، وقراءة الواقع واستشراف المستقبل وفق تفاصيله وانطلاقاً من تعقيداته، وليس طيراناً بأجنحة الأيديولوجيا الماضوية.
مانقوله لا ينتقص من عبد الناصر ومكانته التاريخية ومشروعه النهضوي العظيم، ولا أهمية الوقوف على حدث الوحدة والانقلاب عليها في تاريخنا المعاصر، بقدر ماهو تنزيهاً له من آثام من ينطقون باسمه، ورفعاً لمكانته في مستقبلنا المنشود عن ما ذهب به هؤلاء في انحطاطهم إلى قاع التبعية والارتهان.
في ذكرى الرحيل والوحدة على من تبقى ممسكاً بثوابت الناصرية، التي لا نراها إلا تجسيداً طبيعياً لنضال الشعوب وقواها الوطنية نحو بناء تجاربها الذاتية وأوطانها، أو دولها، على قيم حداثية وديمقراطية، على هؤلاء مراجعة الكثير من المفاهيم والمنطلقات والعلاقات، ونحن بدورنا لا نفهم الناصرية إلا إنتماءً للعروبة في معناها الحضاري والثقافي، ولا نراها إلا مشروعاً تحررياً للأوطان والإنسان، واستقلالاً عن كل المشاريع الغازية والطامعة. أيها المتدثرون بعباءة عبد الناصر راجعوا ذواتكم ومواقفكم فهو براء منكم.