منذ اللقاء الأخير الذي جمع الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، والمشهد السياسي السوري منشغل بما بات يدعى بالاستدارة التركية تجاه المصالحة مع نظام الأسد، وما يزيد المشهد انشغالاً هو تأكيد الجانب التركي الرسمي نفسه على هذه الاستدارة، ابتداءً من تصريحات أردوغان التي كشف فيها عما أسماه نصائح من بوتين تدفع باتجاه التفاوض المباشر مع حكومة الأسد، أضف إلى ذلك التصريحات المتواترة لوزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو التي أفصح من خلالها عن نية بلاده التفاوض المباشر مع نظام دمشق وذلك تحت مظلة القرار الدولي 2245، وقد أعقب تلك التصريحات أكثر من لقاء بين قادة الكيانات الرسمية للمعارضة والوزير التركي، وكلها تمضي ضمن هذا المسعى، الأمر الذي أوجد سؤالاً كبيراً ضمن المشهد السوري المعارض: هل تخلّت تركيا عن دعم شعار المعارضة بإسقاط نظام الأسد؟، وخاصة أن هذا التساؤل الذي تضمن الكثير من الذهول السوري جاء على أعقاب تصريح الرئيس التركي الذي أشار فيه إلى أن تركيا لا تنافس نظام الأسد.
ما يمكن تأكيده هو أنه ليس تركيا فحسب قد تغيّرت أولوياتها حيال القضية السورية، بل معظم الدول النافذة على الجغرافية السورية، وربما بدا ذلك طبيعياً حين ندرك أن انقضاء عشر سنوات من عمر الثورة كفيل بتغيير الكثير من المواقف وذلك تبعاً لتبدّل السياسات المبنية على المصالح التي لا تعرف الثبات والاستقرار، وربما تكون واشنطن هي السباقة إلى تدشين الانعطافات السياسية حيال الموقف السوري، وذلك حين أعلنت عن تشكيل قوات سورية الديمقراطية عام 2015 بهدف محاربة تنظيم داعش، وبات واضحاً منذ ذلك الحين أن واشنطن لها أولوية في سوريا وهي محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش، وظل موقفها من نظام الأسد محصوراً بالمراهنة على تغيير سلوكه دون أن تبدي موقفاً رسمياً بوجوب زواله، بل ربما بدت حريصة على بقائه من خلال موافقتها التامة على التدخل الروسي الذي كان مدفوعاً بالحفاظ على نظام الأسد والحيلولة دون سقوطه.
وما من شك أيضاً في أن مشروع واشنطن الذي أفضى إلى تحالفها مع قسد بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي قد فهمت منه تركياً على أنه مشروع يستهدف مصالحها وأمنها القومي، وبخاصة حين تسعى الولايات المتحدة إلى تمكين الخصم التقليدي واللدود لأنقرة، وحينها لم تجد الحكومة التركية أي غضاضة من ان تتخذ خطوة بحجم الاستدارة الأيركية، أي إذا أرادت واشنطن محاربة الجهة الإرهابية التي تهدد أمنها ومصالحها، فلماذا لا تتخذ أنقرة أيضاً وجهةً مماثلة تحمي من خلالها أمنها ومصالحها؟ داعش تجسد خطراً يهدد أمن الولايات المتحدة والمنطقة عموماً، وحزب العمال الكردستاني ومشتقاته في سوريا أيضاً “جهة إرهابية” تهدد أمن تركيا والمنطقة وفقاً للسياسة التركية، ولئن استطاعت الولايات المتحدة القضاء على القسم الأكبر من مقوّمات داعش البشرية والمادية، فإن أنقرة لم تنته بعد من تحقيق الهدف ذاته حيال خصمها “الإرهابي”، ومن هنا يمكن أن يكون المسعى التركي لتحقيق هذا الهدف هو الأولوية التركية في سوريا قبل أي مسألة أخرى، ولو اقتضى ذلك الحوار أو المفاوضات المباشرة مع نظام الأسد، وذلك بعيداً عن مواقف حلفائها في المعارضة السورية.
على أية حال، ثمة أمران لهما صلة جدّ هامة بالمواقف التركية سواءٌ حيال شركائها الدوليين أو حيال الموقف الداخلي للشارع التركي لا ينبغي تجاهلها:
1 – الإشادة التركية الإعلامية بنصائح بوتين التي تدفع باتجاه المصالحة مع نظام الأسد، لا يمكن تفسيرها على أنها جسّدت لدى الجانب التركي قناعة بصوابيتها وجدواها، بقدر ما يمكن اعتبارها مجاراةً للشريك الذي باتت العلاقات والمصالح معه متشابكة ومتعددة الأوجه والمجالات، بل ويمكن التأكيد على أنها تجاوزت المسألة السورية، مع التأكيد أيضاً على أن مسار أستانة لم يعد إطاراً مختصاً بالنظر إلى المسألة السورية فحسب، بل بات مساراً يُعنى بمصالح الدول الثلاث الراعية له سواء في سوريا أو خارجها، أضف إلى ذلك أن الحرب الروسية الأوكرانية أتاحت لتركيا أن تأخذ دوراً ربما من النادر أن يتيحه أي ظرف تاريخي آخر، أعني دور الوسيط المتوازن الذي يرى أنه يستطيع الاستفادة من التدخل في نزاع هو الأكثر استقطاباً لدول العالم في الوقت الراهن، وطبيعي – نتيجة ذلك – أن تبدو مجاملة بوتين أو مجاراته أمراً مقبولاً وفقاً لأنقرة.
2 – لعله من النافل القول إن الاستدارة التركية قبل أن تتجه نحو الأسد فهي موجهة أصلاً إلى الداخل التركي، أي إلى أحزاب المعارضة التركية التي يرى حزب العدالة والتنمية أن أقرب وسيلة لقطع الطريق عليها وانتزاع ملف اللاجئين السوريين من بازاراتها السياسية هو التواصل المباشر مع نظام دمشق، وبالتالي تحييد ورقة المعارضة التركية عن مساحة التأثير في الشارع التركي الذي يتنافس الجميع على كسب أصواته غداة الانتخابات المقبلة في شهر حزيران.
ولكن في موازاة ذلك، ثمة أمران أيضاً لا يمكن لتركيا تجاهلهما – خلال استدارتها الراهنة – سواء بما يتعلق بماهية نظام الأسد، أو بما يتعلق بالقضية السورية:
1 – لعل تركيا تدرك قبل غيرها أن استمرار نظام الأسد في رأس الحكم إنما بفضل الدعم المباشر من روسيا وإيران، ولولا هذا الدعم لما استطاع البقاء في السلطة، فضلاً عن عدم امتلاكه لقرار مصيره، وكذلك عدم قدرته على بسط سيطرته الكاملة حتى على المناطق التي يسيطر عليها شكلياً، إذ بات من المعلوم للقاصي والداني أن ميليشيات إيران تنازعه النفوذ حتى ضمن أحياء كثيرة من مدينة دمشق ذاتها. كما تدرك أنقرة جيداً أن حكومة الأسد لم يعد بمقدورها أن تقدّم لمواطنيها أبسط أنواع الخدمات، كما أن العقوبات الأميركية المفروضة على نظام الأسد لا تتيح له أي فرصة لانتعاش اقتصادي في المدى المنظور، فما الذي ترجوه أنقرة إذاً من نظام هو في طور الاحتضار؟
2 – ربما كان من الميسور إعادة تأهيل نظام الأسد سياسياً، إن لم تكن ثمة رغبة دولية بزواله، ولكن لعله من العسير بل من المستحيل تأهيله حقوقياً وأخلاقياً، نظراً لسجلّه الفظيع بالإجرام الذي استهدف السوريين على مدى أكثر من عقد، بل من غير المستبعد أن يكون رأس النظام الأسدي وبطانته أمام المحاكم الدولية متى أتاحت الظروف ذلك، ولعل الأهم من ذلك كلّه، وهو ما ينبغي ألّا يغيب عن الحكومة التركية، أن هزيمة الشعب السوري أمام السلاح الكيمياوي والبراميل المتفجرة وغدر قوى الإرهاب والظلامية وخذلان المجتمع الدولي، لا تعني أبداً هزيمة إرادتهم وإصرارهم على التحرر والتغيير.
ربما لا يكون مستبعداً أن يستمر التواصل بين دمشق وأنقرة على المستوى الأمني، وربما أيضاً تطور التواصل إلى مستوى سياسي، ولا أعتقد أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى قفزات نوعية في العلاقة بين الطرفين، ولكنه في الوقت ذاته قادر على إبقاء المواقف وأحاديث المصالحة ساخنةً حتى حزيران القادم، ولكن بدون شك سيختلف كل ذلك بعد انقضاء تموز حين يكون أمر الانتخابات التركية بات محسوماً.
المصدر: المدن