تفرد الحرس الثوري في صناعة القرارات الاستراتيجية أثار مخاوف القوى الإصلاحية من مخاطر “عسكرة النظام”. ليس بعيداً من التحدي الذي يواجهه النظام الإيراني في هذه الأيام نتيجة تداعيات مقتل الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق أو “دوريات الإرشاد” المسلحة، والاعتراضات والتظاهرات وحالات العصيان التي تشهدها العاصمة وبعض المدن الأخرى، وما يمكن أن تتسبب به من إدخال المنظومة السياسية والأمنية في حال قلق على استقرار النظام، فإن تحدياً آخر قد لا يقل خطورة وإلحاحاً بدأت معالمه بالاتضاح في الأشهر الأخيرة، برز على الساحة الإيرانية، بعد الحديث الجدي وشبه الرسمي عن تراجع صحة المرشد الأعلى، وما يمكن أن ينتج من إرباك وتداعيات نتيجة غيابه أو خروجه من المشهد.
وإذا ما كانت أجهزة النظام على استعداد للذهاب إلى أقصى درجات العنف لتفكيك الحركة الاعتراضية على مقتل الفتاة “أميني”، وقمعها ومنعها من التحول إلى تهديد حقيقي لمنظومة السلطة، كما فعلت في أحداث سابقة مارست فيها أشد درجات القمع ولم تتردد في اللجوء إلى القتل باعتراف عبد الرضا فضلي وزير الداخلية في حكومة الرئيس حسن روحاني، الذي كشف أن عدد القتلى في احتجاجات نوفمبر (تشرين ثاني) 2019، والاعتراضات الشعبية على قرار رفع أسعار البنزين والمشتقات النفطية قد تجاوز 350 قتيلاً، وكما حصل في التصدي للحركة الخضراء عام 2009، التي انتهت بأكثر من 200 قتيل وآلاف المعتقلين، ما زال بعضهم في السجون حتى الآن.
الحديث عن خليفة المرشد قد لا يكون جديداً أو مستجداً فهو، أي المرشد نفسه، سبق أن أشار قبل سنتين على مجلس خبراء القيادة، الذي يتولى مهمة اختيار وانتخاب المرشد وولي الفقيه، أن يبدأ مشاوراته لوضع محددات العملية الانتقالية وإعداد لائحة بالأسماء المؤهلة لتولي هذا المنصب والموقع بعده، كما أن الاجتماع الدور الأخير لهذا المجلس أنهى أعماله بالكشف عن أنه قد انتهى من الأمر وباتت لديه صورة واضحة عن الشخصيات التي تتوفر فيها شروط المنافسة على موقع القيادة.
ولعل مخرجات جلسة خبراء القيادة وغياب أو تغييب الجلسة الختامية بينهم وبين المرشد الروتينية بعد كل اجتماع لهم، وما تسرب عن حالة المرشد الصحية وخضوعه لعملية جراحية هي التي رفعت مستوى الحديث عن الخلافة والعملية الانتقالية.
لا شك أن المعادلة أو الشراكة بين المرشد الأعلى ومؤسسة حرس الثورة التي بدأت معالمها بالتبلور منذ نهاية رئاسة هاشمي رفسنجاني للجمهورية عام 1997، وترسخت مع وصول محمد خاتمي إلى رئاسة السلطة التنفيذية، أسهمت في ترسيخ الدولة العميقة أو منظومة السلطة التي تخدم مصالح النظام الداخلية والخارجية، خصوصاً بعد أن استطاع “حرس الثورة” من خلال “مقر خاتم الأنبياء لإعادة الإعمار” الإمساك بكل المفاصل الاقتصادية بشكل مباشر أو غير مباشر، فضلاً عن اختراقه لمؤسسات الدولة والسيطرة على مفاصل القرار السياسي، بخاصة العلاقات الخارجية من خلال تحويل وزارة الخارجية إلى ذراع لتنفيذ توجهاته وسياساته التي يرسمها خلف الكواليس مع المرشد الأعلى والمجلس الأعلى للأمن القومي.
تفرد الحرس في صناعة القرارات الاستراتيجية للنظام أثار مخاوف القوى الإصلاحية من مخاطر “عسكرة النظام” وما يعنيه ذلك من ضرب ما تبقى من ملامح ديمقراطية وتعددية سياسية وحياة مدنية، في حين دخل التيار المحافظ في صراع داخلي بين أجنحته على خلفية مساعي كل طرف لفرض نفسه شريكاً في مستقبل النظام، وهو صراع من المتوقع أن يحتدم في المرحلة المقبلة، ما قبل وما بعد المرحلة الانتقالية ما بين المرشد الحالي وخليفته.
وبغض النظر عن الشخصية التي قد يتم اختيارها لخلافة المرشد، فإن أجنحة التيار المحافظ الطامحة لتكون إلى جانب مؤسسة حرس الثورة في رسم مستقبل النظام والإمساك بالسلطة، لم تعطل أو تعلق جهودها للتخلص من مصادر القلق باستبعاد الشخصيات التي قد تشكل تهديداً لمشروعها.
وقد بدأتها من خلال اللعب على التباين في المواقف بين المرشد ورفسنجاني، الذي رأت فيه تهديداً واضحاً ومباشراً لمصالحها ومخططاتها، فأخرجته من دائرة التأثير والفعل في العملية السياسية بعد رفض أهليته لتولي رئاسة الجمهورية وعضوية مجلس خبراء القيادة.
ولم يتردد وزير الأمن السابق علي مصلحي بالتعبير صراحة عن خطر رفسنجاني على منظومة السلطة وضرورة استبعاده باستخدام سلاح مجلس صيانة الدستور.
ومجلس صيانة الدستور يعد رأس حربة التيار المحافظ في معركة الخلافة، فهو الجهة التي تولت مسؤولية محاصرة واستبعاد حفيد المؤسس حسن الخميني عن أي موقع في تركيبة السلطة، ومنعته من الترشح في سباق رئاسة الجمهورية وعضوية مجلس خبراء القيادة، لما لهذين الموقعين من دور في التأهيل لدخول سباق الخلافة.
المحطة الأبرز في تنامي دور مجلس صيانة الدستور وانسجامه مع الجناح المتشدد “الثابتون – بایداری” بزعامة معلنة لسعيد جليلي، كانت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عندما لم يتجاوب مع توصية المرشد الأعلى بإعادة النظر في بعض الأسماء التي استبعدت من السباق الرئاسي، خصوصاً علي لاريجاني مستشار المرشد، وأهملها بشكل كلي ولم يكلف نفسه عناء التجاوب الشكلي أو البروتوكولي معها، حتى وإن كان ذلك ينسجم مع رغبة غير معلنة لدى المرشد، ما شكل أول المؤشرات على تراخي قبضة المرشد على مفاصل القرار والتحكم به وبمساراته، بالتالي عمل بشكل علني على تمهيد الطريق ونزع الألغام أمام وصول إبراهيم رئيسي إلى رئاسة الجمهورية كتأهيل له ربما للانتقال إلى موقع القيادة.
مع وجود رئيسي في السلطة التنفيذية انتقل جناح “الثابتون – بایداری” ليكون أحد أبرز اللاعبين المدنيين إلى جانب حرس الثورة في الإمساك بقرار النظام، خصوصاً في ما يتعلق بالمفاوضات النووية التي تعد مصيرية للنظام ومستقبل الدولة، سواء في التوصل إلى اتفاق مع المجتمع الدولي أو في عدمه من خلال معادلته على المفاوضات عبر تسليمها لعلي باقري كني المعارض الشديد لأي اتفاق أو تفاوض، والهيمنة على توجهات وزارة الخارجية العاجزة عن اتخاذ قرار حاسم في هذا الإطار.
يمكن القول إن الجناح الذي يمثله سعيد جليلي في الظاهر استطاع التأسيس لدولة داخل الدولة العميقة، ما يعني أن صراعاً من نوع آخر داخل البيت الواحد قد يلوح في أفق المشهد الإيراني مع انتقال معركة خلافة المرشد إلى مستويات متقدمة، وهو صراع قد يكون مفتوحاً على جميع الاحتمالات، بخاصة في السعي لاستبعاد ومحاصرة مصادر الخطر التي قد تعترض مسار الاستحواذ على السلطة، وتكريس نفسه شريكاً مدنياً لمؤسسة حرس الثورة العسكرية والاقتصادية.
المصدر: اندبندنت عربية