بغض النظر عن توقيع الاتفاق النووي من عدمه، تدخل منطقتنا لحظة حقيقة جديدة مع انتهاء الجولة الجديدة في جنيف، تنتهي معها دورة من حرب السلامي في الشرق الأوسط.
وتعرف حرب السلامي في العلوم الاستراتيجية، بأنها غزو وتفكيك تدريجي للخصم، بحيث لا يسمح قطع كل شريحة بحد ذاتها بإثارة ردة فعل كاسحة لدى الخصم، ولكنها تكفي لتحقيق الهدف البعيد تراكمياً.
وعلى مدى عقدين، انهمك القادة الإسرائيليون والإيرانيون في هذه الحرب.
وخلق الإسرائيليون ستارة دبلوماسية من الدخان الكثيف بذريعة الملف النووي. وخدمت هذه الستارة إسرائيل على كل الصعد. فبفضلها تمكنت من قلب محتوى الخطاب العالمي رأساً على عقب، بعيداً من تسوية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وأصبح الدبلوماسيون الأميركيون والأوربيون، وبعد التقاط الصور التذكارية مع عباس في رام الله، يتراكضون إلى القدس في جوقة واحدة، لوضع القضية الفلسطينية، والقانون الدولي وقضايا الفصل العنصري على الرف. فتلك أمور لا تعدو أن تكون “تفاصيل هامة” ولكن غير مستعجلة، تلهينا عن القضية “الأساسية” ألا وهي البرنامج النووي الإيراني. فبفضل هذه الستارة، تمكنت إسرائيل من العودة إلى موقفها المفضل! موقف الضحية الأبدية الذي تحتاجه كحاجتها للهواء.
وبذلك تكون إسرائيل قد فضلت، بوعي ومسؤولية كاملة منها، “مخاطر” الهرمغدون القيامي النووي الإيراني، على “مخاطر” حل منصف للصراع مع الفلسطينيين.
فحين تشعر إسرائيل بهبة من فرط القوة، ترفض بصلف أي إقرار ببضعة كيلومترات من أجل السلام، وبالرغم من حقيقة أن أي تسوية مع الفلسطينيين، كانت كفيلة بتحجيم جوهري للذريعة الإيرانية. وكانت تلك خبرتي عن كثب في عملية السلام في مراحل عديدة.
سمحت هذه الاستراتيجية للطرفين بتجنب المجابهة المفتوحة الشاملة من جهة، وبالاستمرار في تقطيع الإقليم مثل السلامي، شريحة تلو أخرى.
تقطع إسرائيل السلامي الفلسطيني، فتقطع الأرض والحقوق، وقضايا الخلاف، والقوى السياسية، الخ. وإيران، تمعن في تقطيع الدولة الوطنية، بسكينها العقائدي والميليشيوي وباقتصادها الأسود، في بلاد الشام للعراق، شريحة تلو أخرى.
وبالنتيجة، وما لم نذهب ليوم القيامة في الإقليم، تراهن إيران على انهيار العمود الاستراتيجي العربي، لتفرض نفسها شريكاً إقليمياً معتمداً لدى القوى الدولية، في تقاسم النفوذ والمكاسب مع إسرائيل.
ويا سبحان الله، ها هي إيران تعرض منظورها الاستراتيجي لتقاسم النفوذ في الإقليم، والذي شرطه الجوهري إخراج العرب وليس إسرائيل، من الصورة، لكونهم في حالة انهيار استراتيجي.
والآن، أما وأن هذه الستارة ستنقشع قريباً، فما هي خطة إسرائيل؟ وما ستكون عليه خطط إيران؟
من منطق تاجر البازار، تستمر القيادة الإسرائيلية في خداع شعبها بقص العشب أو باغتيالات متفرقة، هنا وهناك، في حين أنها تعلم أن العشب صار غابة، ولن يثير صخبها إلا بعض الخلخلة في البرنامج الإقليمي والنووي. فلقد قبلت إسرائيل منذ البداية بالهرمغدون الإيراني طوعاً وبديلاً للحل المنصف.
وها هي إسرائيل تحاول في واشنطن، مقايضة قبولها باستمرار الخيار النووي، بالمزيد من المساعدات العسكرية. وبدورها تستمر إيران في الهروب إلى الأمام عبر تكتيك “القطة والفأر” مع إسرائيل، والذي وقوده الناس في سوريا ولبنان والعراق، فيما يتجنبان المجابهة الإقليمية المفتوحة، بشكل يدعو للإعجاب.
فكيف تتبلور اللوحة الاستراتيجية الإقليمية أمام إسرائيل وإيران عشية توقيع الاتفاق.
تمتلك إسرائيل ما يقّدر بمئتي قنبلة نووية. وبالانطلاق من نهاية الآفاق العملية لحرب نظامية مع دول الجوار، تبلورت استراتيجيتها ضد الميليشيات المعادية بـ”الحرب بين الحروب”، وقص العشب المتتالي وحرب السلامي. وفيما يرتفع مخزون إيران من اليورانيوم، ويزداد تراكم الصواريخ الدقيقة على حدودها، تستمر إسرائيل في خداع جمهورها.
وبغض النظر عن تعهدات بايدن بمنع القنبلة الإيرانية، تعرف إسرائيل أن الواقع الراهن سيفضي، عاجلاً أم آجلاً، لإيران كدولة على العتبة النووية، وجل ما قد يفعله الاتفاق، هو التأخير، إن فعل.
ويبدو مأزق إيران أعمق وأكبر! ولخمسة عقود، وهي إذ تستمرئ الاستثمار في “اللا حرب واللا سلام” والحرب الطائفية بين شيعة وسنة ويهود إسرائيليين ومسيحيين، فإنها تقترب من قعر حفرتها.
فسياسة اللا سلام واللا حرب الإيرانية، تتآكل بقدر تآكل نظريتها الإسرائيلية. وبحجة الصراع ضد إسرائيل، تقتات إيران على لحم دول الإقليم في العراق وسوريا ولبنان، ليبقى مأزق إيران أنها بنت مجتمعات ميليشيوية عسكرية لا تعرف معنى البناء السلمي، ولا بناء التحضر الاقتصادي. فلئن كانت الشيوعية قدمت وهماً تنموياً بديلاً للّيبرالية الغربية، لم تتمكن إيران من خلق قوة المثل. هذا النمط من الغزو أشبه بغزو تيمورلنك وهولاكو، ما إن يطول به الزمان، حتى يتفسخ ويأكل نفسه.
شباب هذا القرن يحلمون بجنة على الأرض لا في السماء. وليس أدل إلى ذلك من حراكهم العظيم الذي يقلب المعادلات في العراق ولبنان، بل وفي سوريا. شباب الإقليم ينتفضون بوعي تام على منطق الحرب الأهلية الإقليمية وضد لعبة الاستنقاع.
تدرك إيران وإسرائيل أن الصراع في الشرق الأوسط ليس جوهر الصراع في العالم، وما لم ينشأ تهديد حيوي لأميركا ولمصالحها، فلن تتورط في أي حرب فيه. فالحروب المقبلة ما عادت على الموارد، بل على الأسواق. لذلك لا تظهر الولايات المتحدة اهتماماً كبيراً إلا بتطوير مواردها الذاتية وتعظيم سوقها بأرقام فلكية.
بالمقابل، ستنتاب إيران ولا شك نوبة ستروئيد عالية في حال توقيع الاتفاق النووي. لكن ما الذي ستفعله؟ هل ستفعل إيران ما فعله بوتين بثروته الفائضة من ثروة النفط؟ ومن جهتها، هل ستستمر إسرائيل بعنجهية فرط القوة وإغلاق ملف السلام؟
في هذا الإقليم المبتلي بمحرقة الحرب الطائفية بين الأديان والهويات، وبعد نهاية هذه الدورة من حرب السلامي، يبقى ثمة سيناريوان اثنان:
فإما التصعيد وبالتالي انطلاق دورة سباق نووي بوسائل الرعب الحديثة تنفتح على كل دول الإقليم، وصولاً لحافة القيامة الإقليمية، أو فتح مستقبل جديد للمنطقة يبنيه ويشارك فيه عرب المشرق.
بيت القصيد والحلقة المفقودة في كل هذا النقاش هم العرب! هل سيبلورون استراتيجيات وطنية مبادرة لإنهاء الحرب الأهلية الطائفية الإقليمية، التي تفعل في لحمهم وحدهم؟ هل سيستعيدون مسار التنمية وبناء الحوكمة؟ هل سيعيدون تشكيل المشرق العربي لملء الفراغ؟ فما حك ظهرك مثل ظفرك!
ودون ذلك سنعود عاجلاً لدورة شيطانية جديدة من حرب السلامي. وحيث إن السلامي قد نفذ في العراق والشام، فأين ستكون حرب السلامي المقبلة؟
المصدر: النهار العربي