المناقشات بين السوريين في هذه الأيام بشأن حقيقة التحولات التي طرأت على الموقف التركي من الملف السوري عموماً، ومن موضوع إمكانية مد الجسور مجدّداً مع النظام وبناء العلاقات معه، تذكّر إلى حد بعيد بتلك المناقشات التي كانت تُجرى في أواخر ثمانينات القرن المنصرم وبدايات تسعيناته عن طبيعة (ومستقبل) ما كان يشهده المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي في ذلك الحين، فبينما كان فريق من الشيوعيين والماركسيين، واليساريين عموماً، في منطقتنا يراهنون على استمرارية الأمور على ما كانت عليه عقودا، مع إجراء بعض التغييرات والتحولات؛ كان فريق آخر من المتابعين يرى أن الأمور هي أبعد من التحوّلات والمتغيرات التي تتناسب مع طبيعة المرحلة، ويؤكد أن ما كان يجري كان تحوّلاً نوعياً، تبلور نتيجة تراكمات نوعية، وجميعاً نعلم النتائج بعد ذلك.
الموقف التركي من الموضوع السوري في طريقه نحو التحوّل، ويبدو أن نتائج التراكمات التي كانت، سواء على مستوى الوضع التركي الداخلي، أو على مستوى المعارضة السورية، أو على المستويين الإقليمي والدولي، قد تفاعلت، وبدأت النتائج تظهر، وستُصبح أكثر تلمّساً في المستقبل القريب. هذا ما لم تحصل تطوّرات أو متغيّرات جديدة مرتبطة بالحرب الروسية على أوكرانيا، أو بملف العلاقات بين الغرب وإيران بشأن جملة من القضايا، منها الملف النووي، فالحديث عن الاتصالات الأمنية المتواصلة، وعلى أعلى المستويات بين الحكومة التركية وسلطة بشار الأسد؛ إلى جانب تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، وكشفه عن لقاء عابر مع فيصل المقداد وزير خارجية الأسد، إلى جانب تسريبات حول تمنيات الرئيس التركي أردوغان بخصوص حضور بشار الأسد (لم يحصل) قمة دول منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند (عاصمة أوزبكستان) 15 – 16 سبتمبر/ أيلول الحالي، ليلتقي به، ويبيّن له حجم المخاطر التي تهدد سورية نتيجة سياساته كلها مؤشّرات على هذا التحوّل.
وكل هذه الأمور، وغيرها ربما ستكشف الأيام المقبلة عنها، تؤكّد أن التحولات الكمية التي طرأت على الموقف التركي منذ انطلاقة مسار أستانة بداية عام 2017، والذي ما زال يجمع بين تركيا وكل من روسيا وإيران قد تفاعلت، وباتت كيفية.
وربما من المناسب التذكير هنا مجدّداً بأن هذا المسار قد كرّس الرغبة الروسية في جعل موضوع كتابة الدستور بالتوافق بين المعارضة والسلطة أولوية الأولويات في مشروع الحل السوري، عوضاً عن هيئة الحكم الانتقالي التي كان المبعوث المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية الخاص بسورية، كوفي أنان، قد اقترحها أصلاً، وهي الخطة التي تم تبنيها لاحقاً في بيان جنيف 1 عام 2012.
وليس بعيداً عن هذه التحوّلات في الموقف التركي محاولات أقدمت عليها أكثر من دولة عربية بغرض إعادة سلطة بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية في القمة المرتقبة في الجزائر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وكان من الواضح تناغم هذا المطلب مع التوجهات الروسية والإيرانية. غير أن هذا الموضوع قد تم تجاوزه حالياً، بناء على اعتراضات دول عربية عديدة، لإدراكها أن هذا الموضوع سيضفي قسطاً من المشروعية على ما فعلته إيران في الإقليم، لا سيما في سورية ولبنان.
ويبدو أن الموقف الغربي العام، والأميركي على وجه التخصيص، من هذا الموضوع، قد عزّز مواقف بعض الدول العربية المعترضة، وحسم مواقف بعضها الآخر، وكان التوافق على عدم دعوة بشار الأسد إلى القمة المذكورة، بغض النظر عن التخريجة الجزائرية التي حاولت تفسير الأمر برغبة الأخير في المحافظة على الانسجام في الموقف العربي، ما لا يتطابق مع الواقع بأي شكل.
التحولات في مواقف الدول تكون عادة بناء على المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، وهي من الأمور الاعتيادية في عالم العلاقات بين الدول التي لا توجد بينها تحالفات استراتيجية عضوية. وسيكون العالم على الأغلب أمام كثير من هذه التحوّلات في هذه المرحلة المعقدة التي يشهد فيها حرباً شبه عالمية نتيجة الحرب ـ الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي حربٌ أدّت إلى أزمات اقتصادية كبرى، وأسهمت في تغيير الهويات السياسية لبعض الدول (السويد وفنلندا مثالاً)، كما أنها تنذر بمزيد من التداعيات والمخاطر، ما لم تُبذل مساع جادّة للوصول إلى حل مقبول من الجانبين الروسي والأوكراني، لإيقاف الحرب. كما يؤدي توتر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، والتوجه الروسي إلى استمالة الصين وغيرها من الدول، إلى تشكّل اصطفافات واستقطابات جديدة على المستويين الإقليمي والعالمي.
ومن الطبيعي في هذه الظروف المعقدة أن يغدو الملف السوري، رغم كارثية المعاناة السورية، مجرّد تفصيل من التفصيلات بالنسبة إلى الدول العظمى والإقليمية الكبرى التي تسعى حكوماتها، بكل إمكاناتها، إلى تحاشي نتائج ارتدادات الحرب المقنعة بين روسيا والغرب، خصوصا الاقتصادية منها، التي تؤثر مباشرة في المستوى المعيشي اليومي للناس في كل مكان.
هذا بالنسبة إلى الدول، ماذا عن السوريين سلطة ومعارضة؟ على مستوى السلطة، ما زالت تعتبر نفسها منتصرة على القسم الأكبر من السوريين الذين ترى فيهم خونة، ارتبطوا مع الخطط التآمرية الخارجية. هذا في حين أن الجميع يعلم أنه لو كانت هناك إرادة دولية فعلية بتغيير هذه السلطة، لكانت قد سقطت خلال الأشهر الأولى من الثورة السلمية في مواجهة الشعب. ولكن ما أنقذها هو التقاعس الدولي، إلى جانب الدعم الروسي والإيراني والمليشيات المذهبية، بالإضافة إلى الإرهاب الوظيفي. هذه السلطة متمسكة بموقفها، ومستمرّة في فسادها واستبدادها بدعم من رعاتها، وهي تعلم علم اليقين أنها لا تستطيع وحدها التحكّم بالشعب السوري مجدّداً.
هذا في حين أن أوضاع المعارضة راهناً ليست على ما يرام بكل أسف؛ فالمعارضة الرسمية تعاني من جملة أزمات بنيوية مستعصية، ولا تلوح في الأفق أية بوادر لجهود فعلية توحي بإمكانية تجاوزها استعدادا لمواجهة التحديات المقبلة المتاحة. ولم يعد سراً أن هذه المعارضة، بكل مسمّياتها، من ائتلاف، وهيئة عليا للمفاوضات، ولجنة دستورية، بالإضافة إلى المنصّات المختلفة، قد أصبحت امتداداً لأجندات الدول وحساباتها، وهذه الهيئات قد تشكلت أصلاً بناء على توافقات الدول لأداء دور وظيفي أو وظائف محدّدة في مرحلة محددة. ومع ذلك يلاحظ، رغم كل المتغيرات التي طرأت على مواقف الدول وأولوياتها، أن متصدّري المشهد ما زالوا يصرّون على أنهم يمثلون قوى الثورة والمعارضة والتغيير. في حين أن كثيرين منهم، إن لم نقل غالبيتهم الغالبة، قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه، واستمرّوا في مواقعهم بفعل إرادة (أو رغبة) هذه الجهة الدولية أو تلك؛ وهذا فحواه أن الأولويات السورية ليست هي التي تحدّد توجهات هؤلاء، حتى ولو كانت لديهم الرغبة في المحافظة على تلك الأولويات، ولكن الرغبات شيء والإرادة شيء آخر.
أما على مستوى القوى السياسية التي كانت قبل الثورة أو التي تشكّلت لاحقاً، ويُشار هنا إلى “إعلان دمشق” و”هيئة التنسيق” بأحزابهما وقواهما المختلفة، وجماعة الإخوان المسلمين، والأحزاب الكردية سواء ضمن المجلس الوطني الكردي أم خارجه، فهي جميعها تعاني من جملة مشكلات على مستوى القيادة والرؤية، وعدم القدرة على إجراء المراجعات الجادّة للأخطاء التي كانت. وقد أخفقت في اتخاذ الخطوات المطلوبة لاستعادة المصداقية، وتجاوز وضعية الترهل الشمولي (الترهل الفيزيائي والفكري والسياسي ..).
وفي المقابل هناك طاقات شبابية سورية واعدة، في داخل الوطن وخارجه، ممن اكتسبوا خبرة تنظيمية وبحثية في ميادين العمل المدني البحثي والإعلامي، كما تمكّنوا من إتقان اللغات الأجنبية والاطلاع على تجارب الآخرين، وبناء العلاقات على المستويين، الوطني والدولي. ولكن هذه الجهود تحتاج إلى وجود قيادة وطنية سورية تلتزم بالأولويات السورية، وتحقق التكامل بين هذه الطاقات، وتستثمر إنجازاتها وقدراتها وجهودها في صالح السوريين جميعاً من دون أي تمييز.
ومثل هذه القيادة الغائبة لا بد أن تمتلك من الرصيد الوطني، والمؤهلات والمصداقية والحيوية، ما يخوّلها لإجراء المراجعات وإعادة التقييم والتقويم، ويمكّنها من ذلك. على أن تقدم بعد ذلك للسوريين، وللأشقاء والأصدقاء والمجتمع الدولي عموماً، خريطة طريق مقنعة قابلة للتطبيق وللحل، تركّز بصورة أساسية على ضرورة إنهاء معاناة السوريين، واستعادة وحدة سورية شعباً وأرضاً على قاعدة إزالة الهواجس واحترام الخصوصيات والاعتراف بالحقوق، والتوافق على شكل النظام السياسي وطبيعة الإدارة، واعتماد خطّة وطنية تعليمية تنموية شاملة في مقدمة اهتماماتها إعادة إعمار المجتمع والوطن، مع الاهتمام الخاص بالمناطق التي تضرّرت أكثر من غيرها. ويستوجب مثل هذا الأمر إطلاق المبادرات الفردية والجماعية للنهوض بالمجتمع والوطن، بعد كل ما حصل من قتل وتهجير وتدمير.
المصدر: العربي الجديد