البعد الطائفي في مواقف إيران من الربيع العربي

د- عبدالله تركماني

تعاملت إيران الرسمية مع المنطقة العربية من زاوية سياستها الخارجية، وتحالفاتها الإقليمية، وسعيها لتكريس جمهوريتها الإسلامية كدولة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط، وحاملة للواء الدفاع عن الشيعة في العالم. وقد اتخذت إيران الرسمية من ربيع الثورات العربية موقفاً لافتاً في مفارقته لطبيعة النظام السياسي الإيراني، سواء لجهة تركيبته أو مرتكزاته الفكرية، ولسياساته الداخلية. يتمثل هذا الموقف المعلن بدعم الثورات العربية، ولحق الشعوب في التظاهر لتحقيق مطالبها في العدل والمساواة، والمشاركة السياسية. واللافت في هذا الموقف ليس فقط انتهازيته السياسية الفاقعة، من حيث أنه أتى في الوقت نفسه التي تقمع فيه الحكومة الإيرانية حق المعارضة الإيرانية في التظاهر، تعبيراً عن موقفها من النظام، وإنما في مغالطته الجريئة لطبيعة الثورات الشعبية العربية، وتناقضها الكامل مع طبيعة النموذج الإيراني بقيادة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقد تبدت هذه المغالطة فيما قاله المرشد خامنئي، من أن الثورات العربية ” تستلهم نموذج الثورة الإيرانية “، وبالتالي فهي استمرار لها.

ولكن عندما انطلق الحراك الشعبي السوري، في آذار/مارس 2011، انقلب الموقف الإيراني على نفسه، إذ قال الرئيس أحمدي نجاد آنذاك: إنّ هذا الحراك ” يحقق هدف أميركا وحلفائها، والنظام الصهيوني الرامي إلى كسر جبهة المقاومة “. ليس هذا الانقلاب الإيراني غريباً، إذ إنّ رؤية إيران لثورات الربيع العربي يختلط فيها الديني مع السياسي، وتتفق تماماً مع توجهات وأهداف البعد الطائفي الإيراني. بينما قالت الإيرانية شيرين عبادي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، في 23 نيسان/أبريل 2011، أنها تعلق آمالها على التظاهرات الضخمة في سورية، إذ صرّحت لوكالة الصحافة الفرنسية ” إن الديمقراطية في الدول الإسلامية والعربية، وعلى الأخص سورية، ستؤثر بالطبع على الديمقراطية في إيران. إذا أصبحت سورية ديمقراطية فستخسر إيران دميتها “.

وفي الواقع، أدت التغيّرات، التي أحدثها الربيع العربي على الصعيد الإقليمي، إلى وضع إيران في موقع دفاعي، حيث لم تستطع استثمار إعادة التموضع العسكري الأميركي في العراق، خاصة أنه ترافق مع تصاعد الدعوات العراقية لعزل رجل إيران نوري المالكي من رئاسة الوزارة. ولا يقلل هذا من القول: إن الفترة من 2011 – 2022 شهدت تعاظماً للتأثيرات الإيرانية في العديد من الدول العربية، فإيران حاضرة بقوة في سورية، دعماً لنظام بشار الأسد، كما أنها حاضرة في اليمن، داعمة للحوثيين، فضلاً عن دعمها المستمر لحزب الله في لبنان، وتدخلها في قضايا العراق الداخلية، وقدرتها على إثارة شيعة منطقة الخليج العربي، أي امتلاكها أوراق ضغط على الحكومات العربية لتحقيق أهدافها ومصالحها في المنطقة.

أما عن علاقاتها مع تركيا، خاصة على ضوء التباين في الموقف من الثورة السورية، فقد أعلنت إيران ” إنّ هذا الموقف مقلق لنا لجهة تعاطيه مع سورية حليفتنا الاستراتيجية في المنطقة، وأنها لن تكون متفرجة حيال أية تطورات قد تشهدها الحدود التركية السورية “. وعندما سُئل المتحدث الإيراني عن إمكانية تضحية إيران بعلاقتها المتميزة مع تركيا لمصلحة سورية، أجاب ” لا يمكن قياس علاقاتنا الإقليمية على هذه الشاكلة، ولا يمكن أن نتعامل بهذه الطريقة في سياستنا الخارجية. أنقرة ودمشق عاصمتان مهمتان لإيران في المنطقة، وتدخلان في إطار الأمن القومي الإيراني، والعلاقة معهما يجب أن تكون في هذا الإطار ” [1].

ولكن لم تخفِ إيران قلقها حيال الموقف التركي، فيما إذا وقع حراك شعبي في الداخل الإيراني. وفي الوقت نفسه، أدرك قادة إيران أنّ الموقف التركي لا يمكنه أن يتابع السير في تأزيم الأوضاع السورية، تخوفاً من تشاركهم مع سورية في تعدد الطوائف والمذاهب والقوميات، مما يمكن أن يولّد انعكاسات غير مرغوبة، تؤثر سلباً على الأمن الداخلي لتركيا، وبالتالي على سياستها الاقتصادية التي تطمح من خلالها الدخول إلى أسواق الإقليم.

أما في اليمن فجوهر الدور الإيراني يكمن في البحث عن موطئ قدم عند باب المندب، أي امتداد النفوذ الإيراني إلى الحدود الجنوبية للملكة العربية السعودية، مما دفع المملكة إلى قيادة عملية ” عاصفة الحزم “، منذ عام 2015 حتى الآن. ولا تقلل الدعوة الإيرانية إلى الحوار حول المسائل التي ” تتصل بالأمن الإقليمي مع الدول الخليجية، ووصف هذه الدول بالجارة والصديقة “، من التوتر القائم بين الطرفين.

ولا شك أنّ ما دفع إيران للقفز إلى هذا المستوى، من الوضوح والشفافية في تظهير أدواتها وأهدافها، استشعارها باحتمال تغيّرات قادمة في المشهد الإقليمي، من خلال تشكّل تكتل إقليمي يقف ضد طموحاتها. لذلك اندفعت إلى تكريس أوضاع ثابتة في سورية، إذ أصبح مشروع المحافظة على النظام السوري تمثله إيران، لأنه يمثل امتداداً لمشروعها في الهيمنة على المنطقة. لذلك رأيناها تبذل كل ما بوسعها لإجهاض التغيير في سورية، فهي دعمت النظام بالمقاتلين الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين والباكستانيين والأفغان، فضلاً عن الدعم اللوجستي.

لقد وجدت إيران في الثورة السورية ” الفرصة المناسبة لحسم الموقف الإقليمي لمصلحتها، في مواجهة خصومها من الدول الإقليمية الحليفة للغرب. إذ اعتقد قادة إيران إنّ ” القضاء على الانتفاضة السورية والحفاظ على دمشق ضمن النفوذ الإيراني، يشكلان معركة مصيرية، يتحدد فيها مصير نظام ولاية الفقيه الإيراني ذاته، وليس لديهم أي هامش للتراجع أو المناورة ” [2]. فمنذ الأشهر الأولى، حيث كانت جامعة الدول العربية وتركيا وأصدقاؤهما الغربيون يعملون على استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، يدين سياسة القتل المنهجي وقصف المدنيين ” كانت طهران قد قلبت الطاولة على الجميع، وغرقت في حرب دموية من دون اعتبار لأحد أو مراعاة أي مشاعر أو مصالح أخرى، واعتبرتها حرب وجود، واستمرت في الاحتفاظ بالمبادرة فيها. ولا تزال إلى اليوم تقاتل بوسائل متعددة، عسكرية وغير عسكرية، للانفراد بسورية وضمها إلى مملكتها وجعلها حصان طراودة لتقويض أمن الدول العربية والخليجية بشكل خاص ” [3].

إن إحدى النتائج المترتبة على الدعم الإيراني، العسكري والاقتصادي، للنظام السوري، هي تغيّر نوعي في طبيعة العلاقة بين النظامين. فمن حليفين تاريخيين يتبادلان المنافع والخدمات ” بات النظام الإيراني سلطة احتلال في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام، إذ يتحكم الحرس الثوري وشبيحته بشكل كامل بهذه المناطق ” [4].

ولكن منذ سنة 2018 خاصة مع تشديد العقوبات الأميركية على إيران، وضرب إسرائيل للمواقع الإيرانية في سورية، وتزايد التنسيق الروسي – الإسرائيلي، تعزز القلق الإيراني من التحولات في سورية ” من أن تؤدي بالنظام السوري إلى تغيير سلوكه، بدل تغييره، في ظل ما يُحكى عن أنّ الدول المعنية، التي تفضل بقاء النظام، ترغب في أن يترافق إقدامه على الإصلاحات ليلقى الدعم منها، مع أن يعتمد سياسة أخذ المسافة عن طهران.

ولعل هذا القلق الإيراني جعل وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، يدعو إلى ” نموذج أمني جديد ” في 20 آذار/مارس 2018. إذ كتب قائلاً ” ما نواجهه نحن، وسائر اللاعبين الإقليميين في هذه اللحظة التاريخية، يتمثل في ثلاث تحديات أساسية: الإدراك الصائب للواقع الرهن، وبلورة قناعة مشتركة للوضع المنشود في المنطقة، والسبل الكفيلة لبلورة هذا الوضع. على أنّ من شأن تجاوز هذه التحديات، على النحو المؤمل، تأمين مقوّمات الرخاء والأمن والأمان لأبنائنا ” [5]. كما دعا إلى ” الكفّ عن ممارسة السياسات الهدامة “، من خلال ” استحداث شبكة أمنية يساهم فيها جميع بلدان المنطقة “، وأكد على عدة مبادئ ” المساواة بين الدول، وعدم اللجوء إلى التهديد أو القوة، وحل الخلافات بالطرق السلمية، وعدم تدخل أي دولة في شؤون الدول الأخرى (!!)، واحترام حقها في تقرير المصير. وختم قائلاً ” في وسع هذا الحوار، بل يجب أن يحل محل التراشقات اللفظية، والبيانات الدعائية، غير المجدية، والتي نتخاطب بواسطتها عبر وسائل الإعلام “.

وبما أنّ كل مظاهر العلاقات بين الدول تبدأ بالتفاهمات السياسية، فمن المتعذر الحديث عن نظام أمن إقليمي من غير بلوغ توافق على علاقات طبيعية وعادية. والحال أنّ سلوك القيادة الإيرانية ” ينم عن رفض علاقات من هذا النوع، متذرعة بهيمنة أميركية ومطامع إسرائيلية “. مما يوحي بأن إيران تتجاهل الأسباب التي أدت إلى توتر علاقاتها بالعالم العربي، إذ يبدو أنها ” ليست معنية سوى ببسط النفوذ وإثارة الاستقطاب الطائفي واعتماده قنطرة للاختراق ” [6].

وفي الواقع، لم تأتِ دعوة ظريف إلى ” نموذج أمني جديد ” من فراغ، بل محاولة منه لاحتواء تبعات مناخ سياسي إقليمي ودولي مضاد لبلاده. ثم أنّ النظام الإيراني يواجه لحظة دقيقة على عدة صعد [7]: أولها، الوضع الداخلي الذي شهد عدة تعبيرات، عكست تنامي رفض النظام الإسلامي القائم. وثانيها، توجّه إقليمي ودولي ضاق ذرعاً بسياسات إيران وممارساتها، وتدخلها في شؤون دول الجوار. وثالثها، ملف البرنامج النووي، الذي عقدته إيران مع مجموعة 5+1 عام 2015، وموقف إدارة الرئيس الأميركي ترامب منه، حيث اعتبرته اتفاقاً سيئاً، وطالبت بإجراء تعديلات عليه. وتحاول إدارة بايدن العودة إلى الاتفاق تحت تأثير لوبي النفط في أميركا من جهة، واعتقاداً من إدارته بإمكانية احتواء إيران من جهة أخرى.

والمفارقة في التشابه بين موقفي ظريف وعبد اللهيان تكمن في أنّ الأول يمثل الوجه الإيراني المتعاون مع المجتمع الدولي، بينما ينتمي الثاني إلى التيار المتشدد. ومع ذلك يتشابه مضمون حديث الرجلين في التأكيد على أهمية اعتراف الغرب بمكانة إيران كقوة إقليمية ومحورية دورها في حل صراعات الشرق الأوسط.

[1] أوردها محمد صالح صدقيان: العلاقات الايرانية – التركية في ضوء تطورات سورية – صحيفة ” الحياة ” 29 حزيران/يونيو 2011.

[2] د. برهان غليون: عطب الذات (وقائع ثورة لم تكتمل: سورية، 2011 – 2012)، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط 1 بيروت 2019، ص 473.

[3] د. برهان غليون: عطب الذات، المرجع السابق، ص 422

[4] علي أنوزلا: سياسة المحاور في المنطقة العربية – صحيفة ” العربي الجديد ” 28 شباط/فبراير 2018.

[5] محمد جواد ظريف: نحو نموذج أمني جديد في المنطقة – صحيفة ” العربي الجديد ” 20 آذار/مارس 2018.

[6] محمود الريماوي: طهران والعالم العربي الأمن امتداد للسياسة – صحيفة ” العربي الجديد ” 24 آذار/مارس 2018.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى