الحاجة الإيرانية إلى الاتفاق تبدو أكثر إلحاحاً بالقدر نفسه الذي لدى الدول الغربية.
لم تكن ملاحظة المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة ميخائيل أوليانوف حول المسودة المقترحة لنص الاتفاق الجديد بين إيران والمجموعة الدولية السداسية نتيجة المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران مجرد ملاحظة عابرة، بل تصب في صلب الموقف الروسي من نتائج هذه المفاوضات وما قد تسفر عنه من تعديل في أزمة الدول الأوروبية التي أعلنت الحرب الاقتصادية على روسيا نتيجة حربها على أوكرانيا، وما أدت إليه من أزمة طاقة انعكست آثارها السلبية على كل المستويات الاقتصادية.
أوليانوف قال صراحة إن بلاده ستعارض أي نص جديد يكون بديلاً عن نص اتفاق عام 2015 في فيينا، انطلاقاً من ضرورة أن يخضع هذا النص للآليات نفسها التي خضع لها الاتفاق السابق، وأن تراعى فيه مصالح جميع الشركاء الدوليين، وألا يكون مفصلاً لخدمة أهداف ومصالح دول الـ “ترويكا” الأوروبية والولايات المتحدة على حساب مصالح روسيا والصين اللتين دخلتا في مواجهة مفتوحة وصراع مصالح سياسية واقتصادية وجيوسياسية وجيواستراتيجية مع حلف الـ “ناتو”، تعتبر الحرب الأوكرانية أحد أبرز مخرجاته وتبشر بحدوث أزمة جديدة على خلفية الموقف الأميركي من مستقبل تايوان وطبيعية علاقاتها مع عمقها الصيني.
من هنا يمكن فهم الرد الإيراني على مسودة الاتفاق الذي تبادلته طهران مع واشنطن عبر الوسيط، منسق السياسة والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، والذي وصفته الخارجية الأميركية بأنه رد غير بنّاء ويعيد الأمور للدائرة الأولى وقد يؤدي إلى انهيار المفاوضات.
الرد الإيراني سلم إلى الجانب الأميركي بعد الزيارة السريعة التي قام بها وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبداللهيان إلى موسكو واللقاء الذي عقده مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، والاتفاق على تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين وتكريس آليات تعاون مالي واقتصادي يسمح للطرفين والبلدين بالالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية، إضافة إلى ما كشفه من تنسيق إيراني – فرنسي بما يشبه التأسيس لمبادرة إيرانية للمساعدة في حل الأزمة الأوكرانية وتداعياتها على أسواق الطاقة، وتأثيراتها السلبية في اقتصادات الدول الأوروبية.
عودة اللغة الإيرانية في الرد على مسودة الاتفاق للغة التصعيد من باب التمسك بمطالبها المتعلقة بالحصول على موقف واضح من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بإقفال ملف الأنشطة النووية السرية وعدم الإجابة عن أسئلة الوكالة المرتبطة بثلاثة مواقع غير معلن عنها استخدمت لأنشطة تخصيب متقدمة، أي الضغط على واشنطن والعواصم الأوروبية بالتدخل السياسي في عمل الوكالة الدولية وقراراتها، هو تدخل تتمسك بوصفه “ضرورة حسم الإدارة الأميركية موقفها واتخاذ قرار سياسي واضح لإنجاح المفاوضات والاتفاق الجديد”، أو ما تسميه مفاوضات إلغاء العقوبات الاقتصادية.
وإذا ما كانت جهود إعادة إحياء الاتفاق النووي قد اصطدمت بجدار المطالب الإيرانية ذات الطابع السياسي، إلا أن ذلك لا يعني عدم رغبة طهران ونظامها السياسي من جهة، والولايات المتحدة والـ “ترويكا” الأوروبية من جهة أخرى، في التوصل إلى تفاهم واتفاق ينهي أزمة خروج وتفلت البرنامج النووي الإيراني من الرقابة الدولية، وهي رغبة قد يكون من السهل القول إنها راسخة لدى الجميع على الرغم من وصول المفاوضات إلى حافة الانهيار، إلا أن الحاجة الإيرانية تبدو أكثر إلحاحاً بالقدر نفسه الذي لدى الدول الغربية، وهذه الحاجة الإيرانية تنبع من منطلقات لا علاقة لها بالأنشطة النووية وما تسميه طهران “حقاً طبيعياً وقانونياً”، لتأخذ طابعاً سياسياً يرتبط بمصير النظام السياسي ومستقبل استمراريته، فالتوصل إلى اتفاق مع واشنطن بدرجة أساس والـ “ترويكا” الأوروبية بدرجة أقل يتجاوز الموضوع النووي والاقتصادي إلى البعد السياسي، بما يشكل تطبيع علاقة النظام مع هذه العواصم، من تأسيس لمرحلة جديدة تفكك حال العداء المتجذرة وتخرج مساعي تغيير النظام أو تغيير سلوكياته الداخلية والإقليمية والدولية عن أجندة وأولويات هذه الدول في النظرة إليه والتعامل معه.
والاتفاق إذا حصل سيكون بالنسبة إلى النظام مدخلاً أو منصة للانطلاق نحو أهداف أكثر استراتيجية، وسيفتح الطريق أمام تعاون اقتصادي ولاحقاً سياسي بينه وبين الولايات المتحدة، وما المواقف التي صدرت عن عبداللهيان قبل أسابيع حول ترحيل البحث في الملفات الأخرى، بما فيها الصاروخي والإقليمي المرتبط بسلوكيات النظام واستخداماته لهذين الملفين إلى ما بعد إعادة إحياء الاتفاق النووي، سوى مؤشر على استعداد النظام للجلوس إلى طاولة التفاوض المباشر والثنائي والتفاهم على هذه الملفات، بما تعنيه لدى النظام من اعتراف أميركي بالدور والتأثير الذي يمكن أن يلعبه في مستقبل المنطقة بالتنسيق معها.
وإذا ما كانت قيادة النظام ترى في ما حققته “الجمهورية الإسلامية” من نفوذ ودور وقدرات، دولياً وإقليمياً وداخلياً، سمح لها بالاعتماد على شرعية ذاتية مستقلة بعيداً من الحاجة والتبعية لأي طرف أو دولة على الساحة الدولية، بحيث يكون قادراً على الحفاظ على شرعيته “الثورية والدينية” واستقلاليته السياسية، إلا أن السلوك الذي تمارسه هذه القيادة إن كان في ما يتعلق بالمفاوضات النووية والسعي إلى الحصول على الشرعية الدولية من البوابة الأميركية الغربية، أو في الرهان على بناء تحالف ذي طابع شرقي يضمها إلى جانب قطبيه الروسي والصيني، ليشكل مظلة لحماية النظام واستقراره واستمراره في حال فشل مفاوضات العودة للاتفاق النووي، هدفه محاولة تثبيت معادلة الإمساك بعصا التوازن بين الشرق والغرب من الوسط، وتوظيف هذه المعادلة في تعزيز مصالح النظام السياسية والاستراتجية وتحويله إلى حاجة لدى هذين الطرفين تبعده من دائرة الخطر والاستهداف.
المصدر: اندبندنت عربية